مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ
====
====
إعداد الطالب :
فخر الرازي كرديفان
===
كتبه في عام 1423 هـ
*****
عناصر الموضوع :
·
تمهيد
·
الأول : وهو اعتبار
معناها التركيبي
·
الاعتبار الثاني :
تعريف مقاصد الشريعة باعتبار معناها اللقبي ، وهو علم مقاصد الشريعة.
·
نشأة علم مقاصد
الشريعة
·
مقاصد الشريعة بعد
تميزها وتدوينها
·
أهمية المقاصد ومدى الحاجة
إليها
·
طرق معرفة مقاصد
الشريعة
·
الأدلة التي تثبت
مقاصد الشريعة
·
مراتب المقاصد
·
ضابط المقاصد أو الصفة
الضابطة لها
·
المقصد العام من
التشريع هو حفظ النظام إلى جلب المصالح ودرء المفاسد
·
معنى المصالح والمفاسد
·
الضابط الذي به تعرف
المصلحة من المفسدة .
·
ضوابط المصلحة
·
أقسام المصالح
·
أولا : أقسام المصالح
- أو المقاصد - باعتبار آثارها في قوام الأمر .
·
أقسام المصالح
الضرورية :
· ترتيب المقاصد الضرورية السابقة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد
لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد المصطفى الكريم ، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الذين ورثوا العلم
وورثوا ، وأدوا الأمانة فكانوا خير خلف لخير سلف ، فرضي الله عنهم أجمعين ، ونفعنا
بعلومهم آمين .
أما بعد :
فما لا شك فيه أن الشريعة الإسلامية قد جاءت رحمةً للعباد، محافظةً على مصالحهم في أحكامها وتشريعاتها، فاشتملت على معانٍ سامية وحكمٍ جليلة ومقاصد راقية، تصلح للناس وتصلح أحوالهم في أمور دينهم ودنياهم في كل زمان ومكان.
لذلك،
كانت تلك المعاني والحكم والمقاصد موضوع اهتمام العلماء الراسخين في العلم، ولا
سيما علماء أصول الفقه الذين أمعنوا النظر في نصوص الشريعة واستوعبوا دلالاتها.
فهم يغوصون في أعماقها، ويستخرجون دررها النفيسة، ليبرزوا بوضوح مدى صلاحية
الشريعة الإسلامية لكل عصر ومكان، دون حاجة إلى تبديل أو تطوير يتبع الأهواء
والآراء المتقلبة([1]).
ونظراً لاهتمامي الكبير بهذه المادة، رأيت أن أدونها بشكل مختصر معتمدًا على المصادر ذات الصلة، راجيًا أن ينتفع بها كل من يرغب في التبحر في هذا العلم. وأسأل الله عز وجل أن يوفقني للصواب، ويجنبني الخطأ، وأن يجعل عملي هذا نافعًا ومقبولاً في قلوب من يطالعه. إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير، وهو أهلٌ للإجابة والتوفيق.
===****====
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
===
تمهيـد
1- النوع الاول : مقاصد الخالق من الخلق ، وهي تنحصر في أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً كما دل على
ذلك قوله تعالى : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
﴾([2]) وهذا
المقصد عام في جميع الرسالات السماوية ، يدل على ذلك قوله تعالى : ﴿ وما
أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
﴾ ([3]).
وثمرة عبادة الخلق للخالق تعود إليهم بلا شك ؛ لأن الله تعالى غني عن العالمين .
وهذا
النوع من المقاصد لا كلام لنا فيه ، وإن كان يعتبر أصلا للنوع الثاني .
2- النوع الثاني : مقاصد الخالق – الشارع – من التشريع ، ونعني بها الغايات والأسرار التي يرمي إليها التشريع ، ويراعيها الشارع الحكيم عند كل حكم من الأحكام لتحقيق مقصد عام هو حفظ النظام ، وإسعاد الأفراد والجماعات وهذا النوع هو المقصود بالدراسة والبحث([4]).
==***==
تَعْرِيفُ
مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
مقاصد
الشريعة عند تعريفها ينظر إليها باعتبارين :
الأول
: باعتبار معناها التركيبي الإضافي. والثاني : باعتبار معناها اللقبي .
الاعتبار الأول : تعريف مقاصد الشريعة الإسلامية باعتبار معناه
التركيبي الإضافي
فأما
الأول - وهو اعتبار معناها التركيبي - فهو مركب إضافي من كلمتي مقاصد ، والشريعة
المنسوبة إلى الإسلام . ومعلوم أن معرفة المركب تتوقف على معرفة أجزائه التي منها
التركيب ، لهذا سوف نعرف الكلمات الثلاث ، وبها تُعْرَف المقاصد باعتبار معناها
المشار إليه ، فنقول وبالله التوفيق ومنه العون :
أ
– مقاصد :
في
اللغة : جمع مقْصد ، والمقْصَد مصدر ميمي([5]) مأخوذ
من الفعل ’’ قصد ‘‘ يقال : قصد يقْصد قصْداً ومقْصداً . وعليه فالقَصْد والمقْصد بمعنى
واحد .
والقصد
يأتي في اللغة على معان عدة .
منها
: استقامة الطريق ، يقال : قصد الطريق قصداً أن استقام. ومنه قولـه تعـالى : ﴿ وعلى
الله قصد السبيل ﴾([6]).
ومنها
: التوسط والاعتدال وعدم الإفراط والتفريط([7]) يقال :
اقتصد في أمره : أي توسط فيه ولم يفرط . واقتصد في النفقة : أي لم يسرف ولم يقتر ،
ومنه قوله تعـالى : ﴿ واقصد في مشيك ﴾([8]). وقول
جابر بن سمرة : « كنت أصلي مع رسول الله ﷺ
فكانت صلاته قصداً ، وخطبته قصداً »([9]) أي :
وسطاً بين الطويلة والقصيرة.
ومنها
: الاعتزام والتوجه والنهوض نحو الشيء وإرادته سواء أكان على اعتدال أم على جور ،
وهذا المعنى أعم من سابقيه. وهو الأصل في حقيقة الاستعمال عند أهل اللغة([10]) وإن
كان قد يُخص في بعض المواضع بقصد الاستقامة والاعتدال دون الميل كما سبق.
والقصد
في الاصطلاح : لا يخرج عن هذا المعنى غير أنه يمكن تقييده بكونه بقصد التوسط
والاعتدال والاستقامة ؛ لأن هذا القيد ملاحظ في مقاصد الشريعة كما سيأتي. وعليه
يمكن تعريف المقاصد في الاصطلاح : بأنها الاعتزام والتوجه والنهوض نحو اشيء
وإرادته على استقامة واعتدال([11]).
وعرفها
ابن عاشور : بأنها الأعمال التصرفات المقصودة لذاتها التي تسعى النفوس إلى تحصيلها
بمساع شتى ، أو تحمل على السعي إليها امتثالاً([12]).
ب
– الشريعة :
والشريعة
عند أهل اللغة تطلق على الدين ، والملة ، والمنهاج ، والطريقة ، والسنة ، وإن كان
في أصل استعمالهم تطلق على الطريق الظاهر الذي يوصل إلى الماء ، كما تطلق على مورد
الشاربة الذي يشرعه الناس فيشربون منه ويسقون. غير أن العرب لا تسميه شريعة إلا
إذا كان الماء عِداً لا انقطاع له – كماء الأنهار – ظاهراً معيناً ، لا جهد ولا
مشقة في السقي منه ، وهي مشتقة من التشريع الذي هو إيراد الإبل إلى الماء شريعة لا
يحتاج معها إلى نزع من بئر ولا سقي من حوض. ولذلك قالوا في المثل : أهون السقي التشريع([13]).
والشريعة
والشرعة : ما سن الله من الدين وأمر به ، ومنه قوله تعالى : ﴿ ثم
جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ﴾([14]). قال
الفراء : على دين وملة ومنهاج ، كل ذلك يقال([15]).
والشريعة
في الاصطلاح : عرف بتعاريف عدة :
1-
منها : أنها تطلق على كل ما شرعه اله تعالى من العقائد والأعمال ، قاله ابن تيمية([16]).
2-
ومنها : أنها ما شرع الله لعباده من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء – صلى
الله عليهم وعلى نبينا وسلم – سواء كانت متعلقة بكيفية عمل وتسمى فرعية وعملية ،
أو بكيفية اعتقاد وتسمى أصلية. قاله التهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون([17]). غير
أن تعريف الشريعة بما شرعه يستوجب الدور([18]) والدور
باطل ، وبيانه : أن معرفة الشريعة وهي المُعَرَّف تتوقف على معرفة شرع ؛ لأنها
وردت ضمن أجزاء التعريف ، ومعرفة المعرف تتوقف على معرفة أجزائه ، كما أن لفظ شرع
تتوقف معرفته على معرفة الشريعة من جهة اشتقاقها منه.
3-
ومنها : أنها الائتمار بالتزام العبودية ، قاله الجرجاني([19]).
هذه
تعاريف الشريعة في اصطلاح العلماء ، وهي تعاريف لها بالمعنى العام الشامل للجانب
الاعتقادي ، وهو ما يسمى بأصول الدين ، والجانب العملي ، وهو ما يسمى بالأحكام
العملية ، كما تشمل – أيضاً – الشريعة الإسلامية ، والشرائع السابقة.
وهناك
من عرف الشريعة بما يشمل الشريعة الإسلامية والشرائع السابقة – أيضاً – لكنه خصها
بالأحكام العملية ، ولا تشمل الاعتقادية ، وعليه فعرفها قتادة بقوله : تطلق
الشريعة على الأمر والنهي والحدود والفرائض ؛ لأنها طريق إلى الحق([20]).
وعرفها
ابن الأثير بقوله : الشريعة ما سنه الله لعباده من الدين وافترضه عليهم ، يقال :
شرع لهم يشرع شرعاً فهو شارع ، وقد شرع الله الدين شرعاً إذا أظهره وبيَّنه([21]).
وعرفها
بعضهم : بأنه عبارة عن الأحكام التي سنها الله لعباده ليكونوا مؤمنين عاملين على
ما يسعدهم في الدنيا والآخرة([22]).
ويبدو
أن تخصيص الشريعة بالأحكام العملية هو اصطلاح الفقهاء ، ولعلهم أخذوه من قوله
تعالى : ﴿ ولكل
جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ﴾([23]) وقوله
: ﴿ ثم
جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ﴾([24]).
لكني
أميل إلى تعريف الشريعة بما يعم الشريعة المحمدية والشرائع السابقة ، والأحكام
العملية والاعتقادية ؛ لشمول لفظ الشريعة لكل ذلك فأقول : هي عبارة عما جاء به
الرسل من عند الله تعالى بقصد هداية البشر إلى الحق في الاعتقاد ، وإلى الخير في
السلوك والمعاملة([25]).
العلاقة بين معنى الشريعة اللغوي والاصطلاحي.
من
هذا يتضح أن العلاقة بينهما :
إما
حصول الحياة في كل ، وذلك أنه شبه الالتزام بأحكام الدين الذي هو سبب للحياة
الأبدية بالماء الذي هو سبب للحياة الدنيوية الفانية .
وإما
حصول الطهارة من الأوساخ في كل ، وذلك أنه لما كان الالتزام والعمل بالدين طريقاً
لتطهير العامل من الأوساخ المعنوية ، فقد يشبهه بالشريعة التي هي طريق إلى الماء
الذي يطهر مستعمله من الأوساخ الحسية([26]).
فشريعة
الماء فيها طهارة وحياة الأبدان . وشريعة الله فيها طهارة الوجدان وحياة الأرواح وسعادة
الإنسان في الدارين .
جـ
- الإسلام .
أما
الإسلام فهو في اللغة : الانقياد . من أسلم بمعنى انقاد . وقد يأتي بمعنى التفويض
من أسلم أمره له وإليه : أي فوضه. وقد يأتي بمعنى الدفع ، من أسلم الشيء إليه : أي
دفعه([27]).
وفي
الاصطلاح : هو الاستسلام لله – تعالى – بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك . وهو دين جميع الأنبياء ، قال تعالى : ﴿ إن الدين عند الله الإسلام
﴾([28]).
لكن المراد هنا : الدين المنزل على نبينا محمد -ﷺ- وهو آخر الأديان وخاتمها([29]).
وبناء
على تعريف كل من الشريعة والإسلام يمكن تعريف الشريعة الإسلامية بأنها : الأحكام
التي سنها الله – تعالى – لعباده عن طريق نبينا محمد -ﷺ- وجعلها خاتمة الشرائع ،
وهذا التعريف خاص بشريعتنا.
وبناء على تعريفهما وتعريف المقاصد السابق يمكن تعريف مقاصد الشريعة الإسلامية بمعناها التركيبي بأنها : « إرادة وإتيان الأحكام التي سنها الله – تعالى – لعباده عن طريق نبينا محمد -ﷺ- وجعلها خاتمة الشرائع » .
الاعتبار الثاني : تعريف مقاصد الشريعة باعتبار معناها اللقبي ، أي
باعتبار كونها علماً ولقباً على عِلْم معين سمي بهذا الاسم ، وهو علم مقاصد
الشريعة.
تمهيـد
لم
تحظ مقاصد الشريعة باعتبار معناها اللقبي ، أي باعتبار كونها علماً ولقباً
بتعريفات علماء الأصول السابقين ، حتى إن الشاطبي الذي نعتبر أول من بحث المقاصد –
كعلم – بحثاً مستقلاً لم ينقل عنه أنه عرَّف مقاصد الشريعة تعريفاً خاصاً جامعاً
لمفرداتها ، مانعاً من دخول الغير فيها. وذلك إما لكونه يرى الأمر واضحاً لا يحتاج
إلى تعريف ، وأنه كتب لعلماء راسخين في العلم كما ذكر الريسوني([30]).
أو
لأن الشاطبي تبنى منهجاً خاصاً في الحدود ، وهو البعد عن الإغراق في تفاصيل الحدود
، لكونه يرى ان التعريف يحصل بالتقريب للمخاطب – والقارئ – وقد فعل ذلك مما ذكره
من أقسام وأمثلة كما ذكر اليوبي([31]).
بالإضافة إلى أن التعريف قد يكون بالتقسيم، كقولهم : الكلمة اسم وفعل وحرف ، وهو
ما فعله الشاطبي حيث قسم المقاصد إلى ضرورية ، وحاجية ، وتحسينية .
وعليه
فسنكتفي بتعريفات بعض المتأخرين ممن كتب في هذا الموضوع فنقول :
1-
تعريف الطاهر بن عاشور .
قسم
الطاهر بن عاشور مقاصد الشريعة قبل تعريفها إلى عامة ، وخاصة بالمعاملات ، ثم عرف
كلا منهما فقال : مقاصد الشريعة العامة هي : المعاني والحكم الملحوظة للشارع في
جميع أحوال التشريع أو معظمها ، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام
الشريعة([32]).
أما
المقاصد الخاصة بالمعاملات فعرفها : بأنها الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد
الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم العامة في تصرفاتهم الخاصة ، كي لا يعود سعيهم في
مصالحهم الخاصة بإبطال ما أسس لهم من تحصيل مصالحهم العامة ، إبطالاً عن غفلة ، أو
عن استزلال الهوى وباطل شهوة([33]).
فهذا
التعريف وإن كان خاصاًّ بمقاصد الشريعة في المعاملات إلا أنه عام من جهة تناوله
مقاصد كل الناس في المعاملات .
2-
تعريف علاَّل الفاسي.
عرفها
الفاس بتعريف جامع للمقاصد بنوعيها العامة والخاصة ، فقال : المراد بمقاصد الشريعة
: الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها([34]).
3-
تعريف اليوبي.
عرفها
الدكتور محمد سعد اليوبي بقوله : المقاصد : هي المعاني والحكم ونحوها التي راعاها
الشارع في التشريع عموماً وخصوصاً من أجل تحقيق مصالح العباد([35]).
وإني
أختار هذا التعريف مع إضافة يسيرة للتوضيح والبعد عن التلميح ، فأقول :
«هي المعاني والحكم والأهداف والغايات التي راعاها الشارع في التشريع عموما وخصوصا من أجل تحقيق مصالح العباد»
******
نشأة علم مقاصد الشريعة
مقاصد
الشريعة الإسلامية كغيرها من العلوم الشرعية الأخرى ، حيث مرت بمراحل متتابعة قبل
تمييزها وتدوينها بالصورة المعروفة الآن.
والمتتبع
لتاريخ مقاصد الشريعة قبل تدوينها وتمييزها يجد أن بعض المقاصد الشرعية كانت
موجودة في الكتاب والسنة ، ووجدت بوجودهما كما وجدت في أقوال الصحابة وأفعالهم ،
وأقيسة الأصوليين وفي كلام الفقهاء في المسائل الفقهية ، وهناك أمثلة توضح ذلك :
أ
–
في القرآن الكريم وجدت آيات كثيرة تبين بعض مقاصد الشريعة العامة والخاصة نذكر بعضا
منها فيما يلي :
فمن المقاصد العامة : قوله تعالى ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾([36])
وقوله تعالى : ﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾([37]) وقوله
تعالى : ﴿ يريد
الله أن يخفف عنكم ﴾([38]).
ومن
المقاصد الخاصة بأحكام جزئية قوله تعالى : ﴿ إن الصلاة تنهى
عن الفحشاء والمنكر ﴾([39])
فهذا خاص بالصلاة. وقوله تعالى : ﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم
بها
﴾([40])
فهذا خاص بالزكاة ، ونحو ذلك مما يختص بالصوم والحج([41])
وغيرهما.
ب
–
أما السنة فكذلك منها ما يبين بعض مقاصد الشريعة العامة ، كقوله ﷺ : « إن الدين يسر ... »([42])،
وقوله ﷺ : « فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسِّرين »([43])،
وقوله ﷺ : « يسروا ولا تعسروا »([44]).
ومنها
ما يبين بعض مقاصد الشريعة الخاصة : كقوله ﷺ : « لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم
بالسواك عند كل صلاة »([45])،
وقوله ﷺ : « إنما جعل الاستئذان من أجـل البصر »([46])، وقوله
ﷺ : « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج
، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء »([47]). ونحو
ذلك من الأحاديث الكثيرة التي اقترنت ببيان العلل والحكم والمقاصد العامة والخاصة
من التشريع.
جـ
-
أما الصحابة – رضوان الله عليهم – فمن أقوالهم وأفعالهم ما دل على أنهم بنوا بعض
أحكامهم على علل ومقاصد:
منها
: قول عمر بن الخطاب حين أشار على أبي بكر بجمع صحف القرآن الكريم ، وتردد أبي بكر
: " إنه والله خير ومصلحة للمسلين "([48]).
ومنها
: إجماع الصحابة على جمع القرآن الكريم وتدوينه في مصحف واحد فقد على أنهم راعوا
مقصداً مهماً من مقاصد الشريعة هو حفظ الدين . كذلك إجماعهم على قتال مانعي الزكاة
بإشارة من أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك مراعاة لحفظ الدين والمال ، وكذلك إجماعهم
على تضمين الصناع ، مراعاة لحفظ المال ، وهكذا([49]).
د
–
كذلك أقيسة علماء الأصول قبل تدوين المقاصد تدل على أنهم راعوا مقاصد الشريعة ،
حيث إن العلة أحد أركان القياس واشترطوا فيها أن تكون مشتملة على المناسبة، بأن
يحصل من ترتب الحكم عليها تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة ، ونحو ذلك مما يدل على أن
الذين تكلموا في القياس والمصالح المرسلة لهم دور فاعل في التنبيه على مقاصد
الشريعة ووضع ضوابط لها.
هـ
-
كذلك كلام الفقهاء في المسائل الفقهية في عصور ما قبل تدوينه المقاصد لا يخلو من
التنبيه على الحكم والمصالح المفهومة من الأحكام مما يعتبر تنبيهاً على مقاصد
الشريعة الخاصة المتعلقة بمسائل معينة ، ويظهر ذلك أكثر في كتب فقهاء لحنفية الذين
أكثروا من استعمال الرأي ، كل هذا تؤكد أن مقاصد الشريعة كانت موجودة كمعاني وعلل
وحكم ومصالح متفرقة في آيات القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية ، وآثار الصحابة ،
والأقيسة الأصولية ، والمسائل الفقهية ، لكنها لم تُمَيَّز ولم تُفْرَد بالتدوين
إلا على يد أبي إسحاق الشاطبي المتوفى سنة 790هـ.
*****
مقاصد الشريعة بعد تميزها وتدوينها
لكي
نتكلم عن مقاصد الشريعة بعد تميزها وتدوينها لا بد وأن تشير إلى أن هناك من تكلم
عن المقاصد ودوَّن فيها قبل الشاطبي : كإمام الحرمين الجويني ، والغزالي ، والعز
بن عبد السلام وغيرهم ، لكن هؤلاء لم يفردوها بالتدوين والتأليف ، وإنما ذكروها
ضمن مؤلفاتهم ، وإليك نبذة موجزة عن تناول كل منهم للمقاصد ثم تناول الشاطبي لها.
1-
إمام الحرمين الجويني :
يعتبر
إمام الحرمين الجويني من أوائل العلماء الذين تناولوا مقاصد الشريعة في مواضع
متعددة من كتابه البرهان ، لكن بإشارات مقتضية :
منها
: أنه نبه على تقسيم المقاصد إلى ضرورية وحاجية وتحسينية ، وحيث قسم أصول الشريعة
إلى خمسة أقسام :
الأول
: ما يعقل معناه ، وهو أصل ويؤول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري لا بد منه ...
وهذا بمنزلة قضاء الشرع بوجوب القصاص في أوانه فهو معلل بتحقيق العصمة في الدماء
المحقونة والزجر عن التهجم عليها .
الثاني
: ما يتعلق بالحاجة العامة ، ولا ينتهي إلى حد الضرورة ، وقد مثل له بتصحيح
الإجارة ، فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها ، وضَنّة
ملاكها بها على سبيل العارية.
الثالث
: ما لا يتعلق بضرورة خاصة ولا حاجة عامة ، ولكن يلوج فيه غرض جلب مكرمة ، أو في
نفي نقيض لها ، وقد مثل له بطهارة الحدث وإزالة الخبث.
الرابع
: ما لا يستند إلى ضرورة ولا حاجة ، وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحاً
ابتداءً ، وهذا وسابقه يشير بهما إلى التحسين بقسميه كما سيأتي.
الخامس
: ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلاً ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على
مكرمة ...([50]).
هذا
بالإضافة إلى مواضع أخرى أشار فيها إلى المقاصد .
2-
الغزالي :
جاءت
كتابات الإمام الغزالي في المقاصد بعد شيخه إمام الحرمين ، فتميزت بالتفصيل
والتوضيح ، فذكر في المستصفى : المصلحة وقسمها بالإضافة إلى شهادة الشرع لها إلى
ثلاثة أقسام : المصلحة التي شهد لها الشرع بالاعتبار ، والمصلحة التي شهد لها
بالإبطال ، والمصلحة التي لم يشهد لها الشرع لا بالإبطال ولا بالاعتبار . ثم قسمها
باعتبار قوتها في ذاتها إلى ما هي في رتبة الضروريات ، وما هي في رتبة الحاجيات ،
وما هي في رتبة التحسينيات والتزيينات ، ثم ألحق بكل قسم منها ما يجري مجرى
التكملة والتتمة لها ، ثم قال : ونعنى بالمصلحة : المحافظة على مقصود الشرع ،
ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو أن يحفظ عليهم دينهم ، ونفسهم ، وعقلهم ، ونسلهم
، ومالهم ...([51])
وذكر أمثلة لكل من الضروريات والحاجيات والتحسينيات ، وتوسع فيها وبين أن مقاصد
الشرع تعرف بالكتاب ، والسنة ، والإجماع ... بالإضافة إلى بيانه لكثير من الحكم
والفوائد والمقاصد والعلل وطرقها وقوادحها في كتابيه : إحياء علوم الدين ، وشفاء الغليل
، مما يدل دلالة قوية على أن الغزالي اهتم اهتماماً كبيراً بمقاصد الشريعة واعتنى
بها عناية فائقة ، فقدم بذلك خدمة عظيمة لمن جاء بعده ممن كتبوا في المقاصد([52]).
3-
العز بن عبد السلام :
جاء
العز بن عبد السلام بعد هذين وغيرهما كالرازي والآمدي([53])
فانتقل بالمقاصد في التأليف والتدوين نقلة كبيرة ، وذلك بتأليف كتابه قواعد
الأحكام في مصالح الأنام ، فبين فيه حقيقة المصالح والمفاسد ، وتقسيم المصالح
والمفاسد ، ورتب المصالح والمفاسد ورجح بينهما ، ورجح بين المصالح أنفسها ، ونحو
ذلك من الأحكام المتعلقة بالمصالح ، مما جعله زائداً في هذا الموضوع ، وكل من كتب
بعده في المصلحة فهو مدين له بلا شك([54]).
كما
أنه لم يهمل المقاصد ، فقد قسم مقاصد الشريعة إلى عامة وخاصة وذكر الضروريات ،
والحاجيات ، والتحسينيات ، والتتمات ، كما ذكر الضروريات الخمس ورجح بينها ، وتكلم
عن مقاصد جزئية كثيرة تتعلق بالصلاة ، والجهاد ، والحج ، وغيرها. كما تكلم عن وسائل
المقاصد وأحكامها ، إلى غير ذلك من موضوعات المقاصد التي تناولها الكتاب([55])، وبهذا
وذاك يكون العز بن عبد السلام قد أحدث تحولاً هائلاً في الكتابة في علم المقاصد .
*****
مقاصد الشريعة عند الشاطبي
يعتبر
الشاطبي المتوفى سنة 790هـ أول من جمع المقاصد ورتبها ونسقها وفصَّل القول فيها
ودونها في كتاب مستقل بذاته هو الجزء الثاني من كتابه الموافقات ، فقسم فيه مقاصد
الشريعة قسمين : الأول : مقاصد الشارع ، والثاني : مقاصد المكلف ، ثم تكلم عن
مقاصد الشارع من وضع الشريعة فجعله في أربعة أنواع :
الأول
: مقاصد وضع الشريعة ابتداءً ، وضمنه ثلاث عشرة مسألة.
والثاني
: مقاصد وضع الشريعة للإفهام ، وذكر فيه خمس مسائل.
والثالث
: مقاصد وضع الشريعة للتكليف ، وضمنه ثنتي عشرة مسألة.
والرابع
: مقاصد وضع الشريعة للامتثال ، وذكر فيه عشرين مسألة.
ثم
تكلم عن القسم الثاني : وهو مقاصد المكلف ، وذكر فيه ثنتي عشرة مسألة([56]). هذا
بالإضافة إلى ما ذكره في المقاصد في باقي أجزاء كتاب الموافقات ، فلا تكاد تجد
جزءً منه إلا وتكلم فيه عن مقصد من مقاصد الشريعة وربطه بكثير من مسائل أصول
الفقه.
المقاصد بعد الشاطبي
لم
نجد – فيما نعلم – من كتب في مقاصد الشريعة كتابة مستقلة بعد الشاطبي إلى أن جاء
الطاهر بن عاشور الزيتوني التونسي المغربي في سنة 1366هـ / 1946م ، فألف كتابه : « مقاصد الشريعة الإسلامية » ، ثم توالى
الناس في التأليف . فألف علاَّل الفاسي كتابه : « مقاصد الشريعة الإسلامية
ومكارمها » ، والدكتور يوسف العالم وكتابه : « المقاصد العامة للشريعة » ، والدكتور محمد سعد
اليوبي كتابه : « مقاصد الشريعة الإسلامية » ، بالإضافة على « مقاصد الشريعة عند
الشاطبي » للريسوني ، و« مقاصد الشريعة » عند ابن تيمية للبدوي ، وغيرها .
أهمية المقاصد ومدى الحاجة إليها
مما
لا شك فيه أن قصد الشارع من التشريع هو تحقيق مصالح العباد ، ودفع الفساد عنهم ،
فإذا كان عمل المكلف قد قصد به ما يناقض قصد الشارع كان عمله باطلاً ، لأن الشريعة
موضوعة لإخراج المكلف من داعية هواه ، وإدخاله تحت أمر الشارع ونهيه حتى يكون
عبداً لله تعالى.
والمكلف
قد يكون مقلداً ، وقد يكون مجتهداً .
فإذا
كان عامياً مقلداً ، فالأصل فيه أن يتلقى الشريعة بدون معرفة مقاصدها التي ترمي إليها
تفصيلاً ؛ لأن معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلم ، لا يخوض فيه إلا من
بلغ درجة من العلم ، ووُهِبَ قدراً من لطف الذهب ، واستقامة الفهم.
فالمقلد
لا بد له من قائد يقوده ، وحاكم يحكم عليه ، وعالم يقتدي به ، ولا يجوز لعاقل
تقليد الغير في أمر مع علمه بأنه ليس من أهل ذلك الأمر ، كما لا يمكن أن يُسَلِّم
المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا إذا كان فاسد العقل([57]).
ومن
هنا لم يكن العامي المقلد في حاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة ؛ لأنه ليس من أهلها.
أما
العالم المجتهد الذي يتصرف في الشريعة باستنباط الأحكام من النصوص والقواعد
والمبادئ ، ويطبقها على الوقائع ، فهذا لا بد له من معرفة مقاصد الشريعة ، وحاجته
إليها شديدة ؛ إذ هي بالنسبة له كالبوصلة بالنسبة للمسافر ، فكما أن المسافر لا
غنى له عنها في تحديد صحة اتجاهه من عدمه ، فكذلك العالم يحتاج إلى المقاصد لتحديد
صحة سيره في البحث عن أحكام الشريعة ، وسلامة طريقه في التعامل مع نصوص الكتاب
والسنة وعباراتها واستخراج واستنباط مدلولاتها ومعانيها ومراميها ، فالمقاصد – إذن
– مختصة بأهل العلم والاجتهاد القادرين على الاستنباط ، لذلك نوه الشاطبي بأهمية
المقاصد ، وحاجة المجتهدين إليها ، بل جعل فهمها من الشروط الواجب توفرها لمن
ارتقى سلم الاجتهاد ، فقال – رحمه الله – :
"
إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين : الأول : فهم مقاصد الشريعة على كمالها .
والثاني : التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها.
أما
الأول : فقد بين أنه استقر بالاستقراء التام أن المصالح ثلاث مراتب ، ضرورية
وحاجية وتحسينية ، فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من
مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها ، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة
الخليفة للنبي -ﷺ- في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.
وأما
الثاني : فهو كالخادم للأول ، فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف جزئية محتاج
إليها في فهم مقاصد الشريعة أولاً ، ومن هنا كان خادماً للأول وفي استنباط الأحكام
ثانياً ، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط ، فلذلك جعل شرطاً ثانياً للاجتهاد ، وفهم المقاصد شرطاً أولياً له ، وإنما
كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة ؛ لأنه المقصود والثاني وسيلته
"([58]).
أي
أن فهم مقاصد الشريعة يتوقف على فهم الجزئيات التي هي الأدلة الخاصة من الكتاب
والسنة الإجماع والقياس وما يتعلق بها من مسائل. فالجزئيات يفهم بها مقاصد الشريعة
أولاً فهي تخدمها من هذه الجهة. وعند الاستنباط لا بد من ضم فهم الجزئيات إلى فهم
المقاصد ، ولهذا قال : وفي استنباط الأحكام ثانياً
، أي أن فهم الجزئيات يحتاج إليه في فهم المقاصد أولاً ، وفي الاستنباط
ثانياً.
ثم
يبين ابن عاشور – أيضاً – حاجة الفقيه إلى المقاصد دون العامي ، فقال : " وليس
كل مكلف بحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة ؛ لأن معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من
أنواع العلم ... وحق العالم فهم المقاصد ، والعلماء في ذلك متفاوتون على قدر
القرائح والفهوم... "([59]).
وبمقدار
رسوخ العالم في فقه الكتاب والسنة يكون مقدار استيفائه لكليات الشريعة ومقاصدها ،
وقدرته في إدراج جزئيات الأحكام تحت الكليات ورده إليها([60]).
فالفقيه
– إذن – محتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة في قبول الآثار من السنة ، وفي الاعتبار
بأقوال الصحابة والسلف من الفقهاء وفي تصريف الاستدلال.
ولقد
قرر ابن عاشور – رحمه الله – حاجة الفقيه إلى ذلك بكلام نفيس خلاصته : إن تصرف
المجتهدين في الشريعة له خمسة أنواع :
الأول
:
فهم مدلولات الألفاظ التي وردت في الكتاب والسنة بحسب الوضع اللغوي والاستعمال
الشرعي الذي يقتضيه الاستدلال الفقهي ، وقد تكفل ببيان معظم هذا علماء أصول الفقه واحتياج
المجتهد في هذا النوع إلى مقاصد الشريعة احتياج ما ، بحيث يتأكد من دلالة
اللفظ اللغوية ، والاستعمال الشرعي([61]).
الثاني
:
بعد التأكد من سلامة الدلالة بمقتضى اللغة ، أو بمقتضى الاستعمال الشرعي يبحث عما
يعارض الأدلة التي لاحت له ، والتي استكمل إعمال النظر في استفادة مدلولاتها ؛
ليعتقد بأن تلك الأدلة سالمة مما يبطل دلالتها وما يقضي عليها بالنسخ ، أو
بالتخصيص ، أو التقييد ، فإن اعتقد واستيقن أن الدليل سالم عن المعارض أعمله وأخذ
به. وإذا وجد له معارضاً نظر في كيفية العمل بالدليلين معاً . وذلك بحمل العام على
الخاص مثلاً ، أو رجحان أحدهما على الآخر . مع ملاحظة أن التعارض بين الأدلة إنما
هو بحسب الظاهر والناظر ، لا بحسب الحقيقة والواقع
، فالشريعة متفقة مؤتلفة ، لا تعارض فيها البتة.
وحاجة
المجتهد إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذا النوع أشد من النوع الأول ؛ لأن باعث
النتقيب عن المعارض والبحث عنه يقوى ويضعف بمقدار ما ينقدح في نفسه وقت النظر في
الدليل من كونه مناسباً لأن يكون مقصوداً للشارع أو غير مناسب ، وبمقدار تشككه
وقوة هذا الشك في أن يكون ذلك المعارض مناسباً للمقصود الشرعي ، أو غير مناسب يكون
الاقتناع عند وجود المعارض سريعاً أو بطيئاً.
فمن
الشك القوي الذي جعل اقتناع المجتهد بالمعارض بطيئاً :
ما
روي أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثا فلم يجبه خرج ، فبعث عمر
وراءه ، فلما حضر عتب عليه انصرافه قبل أن يؤذن له ، فذكر أبو موسى أنه سمع رسول
الله ﷺ " أنه إذا لم يؤذن للمستأذن بعد ثلاث فلينصرف " ، فطالبه عمر
بالبينة وضايقه حتى جعل أبو موسى يسأل في مجلس الأنصار عمن يشهد له ، فقالوا له :
لا يشهد لك إلا أصغرنا وهو أبو سعيد الخدري ، فلما شهد له بذلك عند عمر ، اقتنع
عمر وعلم أن كثيراً من الأنصار يعلم ذلك ، وما كان ذلك من عمر إلا لشكه القوي في
أن يكون أصل الاستئذان الدال عليه قوله تعالى ﴿ فلا تدخلوها حتى
يؤذن لكم
﴾([62])
قد عورض بتقييده بثلاث يرجع بعدها .
ومن
الشك الضعيف الذي جعل اقتناع المجتهد بالمعارض سريعاً :
أن عمر بن الخطاب حين تردد في أخذ الجزية من المجوس قال له
عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله -ﷺ- يقول : « سنوا بهم سنة أهل الكتاب »
فإنه قبل ذلك من عبد الرحمن وأخذ به بمجرد سماعه منه ولم يطلب شاهداً له ، وما ذلك
إلا لشكه الضعيف في المعارض([63]).
الثالث
:
قياس ما لم يرد حكمه في أقوال الشارع على ما ورد حكمه فيه ، بعد أن يعرف علل
التشريعات الثابتة بطريق من طرق مسالك العلة المبينة في أصول الفقه([64]).
واحتياج المجتهد إلى معرفة مقاصد الشريعة في هذا النوع ظاهر
؛ لأن القياس يعتمد إثبات العلل ، وإثبات العلل قد يحتاج إلى معرفة مقاصد الشريعة كما
في المناسبة ، وتخريج المناط([65])،
وتنقيح المناط([66])،
وإلغاء الوصف الفارق ، ولذلك جعلوا العلة ضابطاً للحِكْمة ، ووجوه الحكم الشرعية
من المقاصد .
الرابع
: إعطاء
حكم لفعل أو حادثة حدثت للناس ، ولا يعرف حكمها فيما لاح للمجتهد من أدلة الشريعة
، ولا نظير له ليقاس عليه ، واحتياج المجتهد في هذا النوع إلى معرفة
المقاصد أظهر ؛ لأن هذا النوع كفيل بدوام أحكام الشريعة الإسلامية ، وعمومها
للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الرسول -ﷺ- والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا.
وفي
هذا النوع أثبت الإمام مالك – رحمه الله – ومن معه حجية المصالح المرسلة ، وفيه أيضاً قال الأئمة بمراعاة الكليات الشرعية
الضرورية ، وألحقوا بها الحاجية والتحسينية ، وسموا الجميع بالمناسب .
الخامس : وهو ما يسمى
بالتعبدي من الأحكام الشرعية ، وعلى المجتهد – في هذا النوع – إذا عجز عن إدراك حكمة
الشارع في حكم من الأحكام أن يتهم نفسه بالقصور، ويستضعف علمه بجانب سعة
الشريعة وكمالها ، وكل ما ورد عليه في شرع الله مما يصادم الرأي فإنه حق يتبين على
التدريج حتى يظهر فساد ذلك الرأي ؛ لأن الشرع حق والحق لا يختلف في نفسه([67]).
واحتياج
المجتهد في هذا النوع على مقاصد الشريعة : أنه بمقدار ما يستحصل من مقاصد الشريعة
ويستكثر مما حصل في علمه منها يقل بين يديه هذا النوع التعبدي الذي هو مظهر خيرة
بالنسبة له([68])،
والعلماء في مقام فهم مقاصد الشريعة متفاوتون([69]).
نخلص
من هذا كله إلى أن المجتهد في حاجة ماسة إلى معرفة مقاصد الشريعة ، وذلك بفهم أقوالها
وما تفيده تلك الأقوال من مدلولات بحسب الاستعمال اللغوي ، والنقل الشرعي ، ومعرفة
التعارض بين الأدلة ؛ ليعمل بالدليل السالم عن المعارض ، ويجمع ويوفق بين الأدلة
المتعارضة ، أو يرجح بينها حتى يعمل بالراجح ، كما يعرف علل الأحكام الثابتة بطريق
من طرق العلة حتى يلحق ما لم ينص عليه بما نص أو أجمع عليه ، وهو ما يعرف بالقياس
كما يعرف المصالح المرسلة حتى يحاول إعطاء حكم لفعل أو حادثة لم يعرف حكمها بدليل
من أدلة الشرع ، ولم يكن لها نظير تقاس عليه ، فإذا لم يعرف هذا ولا ذلك ، أخذ
بالحكم على أنه تعبدي لا تدرك علته. غير أن حاجة الفقيه المجتهد إلى معرفة العلل
والتعارض بين الأدلة والمصالح المرسلة أشد من حاجته إلى غيرها.
فإذا
أهمل الفقيه النظر في مقاصد الشريعة ، واتبع رأيه وهواه فقد ضل وأضل ، وأوقع الناس
في تهارج وتقاتل وهلاك وإهلاك وفساد كبير ، ونحو ذلك من كل ما هو مضاد لمقصد
الشارع من التشريع ، كما قال تعالى : ﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت
السماوات والأرض ومن فيهن ﴾([70])،
وحينئذ يكون عمله باطلاً ؛ لمخالفته لقصد الشارع من التشريع
، ولا يستحق القبول ولا الإثابة عليه([71]).
وحيث
ثبت حاجة المجتهد الماسة إلى معرفة مقاصد الشريعة في مجال الاستنباط ، فما هي
الطرق التي يَعْرِف بها مقاصد الشريعة ، هذا ما سنتكلم عنه في العنوان التالي.
طُرُقُ مَعْرِفَةِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ
الطرق
التي بها تُعْرَف مقاصد الشارع من تشريع الأحكام كثيرة نقتصر منها على أهمها وهي
كما يلي :
الطريق
الأول : النص الصريح المعلل([72]).
فالمتتبع
لآيات الأحكام في القرآن الكريم وأحاديث الأحكام في السنة المطهرة يجد معظمها جاء
مقروناً بالتعليل ، وهناك طائفة من الآيات والأحاديث التي تبين ذلك :
1-
قوله تعالى : ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون
به عدو الله وعدوكم ﴾([73])،
ففي هذه الآية أمر الله تعالى المؤمنين باتخاذ العُدة لقتال لأجل إدخال الرعب في
قلوب الكفار المحاربين ، والمصلحة المقصودة من الجهاد هي حماية دينه وإعلاء كلمته ،
وحماية ديار المسلمين وأموالهم وأعراضهم.
2-
قوله تعالى : ﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل
الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة
والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون
﴾([74])،
فالله تعالى أمر باجتناب الخمر وهو أبلغ في النهي والتحريم من صيغة لا تفعل ، وعلل
ذلك بأنواع من المفاسد الدينية : كصدها عن ذكر الله وعن الصلاة ، والمفاسد
الدنيوية ، كالعداوة والبغضاء بين الأمة بسبب شربها([75]).
والمقصود فيها واضح هو حفظ العقل.
3- قوله تعالى : ﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه والرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ﴾([76])، فالله
تعالى حكم بتوزيع الفيء وأوجب تخميسه ، وعلل ذلك بأنه حتى لا يتداوله الأغنياء ،
فلا يحصل للفقراء منه نصيب ، وفي ذلك ضرر عظيم بالفقراء ، وبالأغنياء أيضاً وهو حقد
الفقراء عليهم([77]).
4- قوله تعالى : ﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم
﴾([78])،
وقوله تعالى : ﴿ وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر
لقلوبكم وقلوبهن ﴾([79])،
وقوله تعالى : ﴿ ولا يضربن بأرجلهن ، ليعلم ما يخفين من زينتهن
﴾([80])،
وقوله تعالى : ﴿ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض
﴾([81]).
فهذه الآيات قد وردت معللة بعلل كقوله : أزكى لهم ،وأطهر لقلوبكم وقلوبهن ، ونحو
ذلك مما يعتبر سداً لباب الفواحش ومنافذ الذنوب والفساد التي دفعها الله تعالى
بشرعه تلك الآداب ؛ حماية للأنفس والأعراض ، وهي من مقاصد الشريعة([82]). إلى
غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وردت معللة ؛ لتحقيق مصلحة أو دفع مفسدة .
أما
السنة : فأحاديث كثيرة جاء الحكم فيها مقروناً بالتعليل منها :
1-
قوله ﷺ : « يا أيها الناس إنكم منفرون فمن صلى بالناس فليخفف ، فإن فيهم المريض
والضعيف وذا الحاجة »([83]).
ففي
هذا الحديث زجر من النبي -ﷺ- للمطولين من الأئمة الذين يؤمون الناس في الصلاة ،
وأمر لهم بالتخفيف والتيسير من أجل المرضى والضعفاء وأصحاب الحاجات([84]).
2-
قوله ﷺ : « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن
للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء »([85])، فهذا
أمر من النبي -ﷺ- للقادر على الزواج بأن يتزوج ، وعلل هذا الأمر بأنه أغض للبصر
وأحفظ للفرج ، كما أمر -ﷺ- غير القادر على الزواج بالصوم ، وعلل بأنه كاسر للشهوة.
وهذا علاج اجتماعي عظيم بيَّنه ﷺ للشباب خاصة غير القادرين منهم على الزواج في ظل
التغالي في المهور وتكاليف الزواج ، هدى الله الأولياء للإقلاع عن هذه العادات
البغيضة.
3-
قوله ﷺ : « لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ؛ فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم
أرحامكم »([86])،
فالنبي -ﷺ- علل النهي عن نكاح المرأة على عمتها أو خالتها بما يترتب على فعله – أي
نكاح المرأة على عمتها وخالتها – من ضرر عظيم هو قطع الأرحام. وهذا يناقض قصد
الشارع الذي حث على الترابط العائلي والتماسك الأسري ، بل وتماسك الأمة ككل .
4-
قوله ﷺ للمغيرة بن شعبة عندما أراد أن يتزوج امرأة : « انظر إليها ، فإنه أحرى أن
يؤدم بينكما »([87])،
أي أجدر وأنسب أن يؤلف بينكما ، فبيَّن ﷺ العلة من أمره للمغيرة بالنظر إلى من
يريد زواجها ، وهي ما يترتب على النظر من حصول المحبة التي يعقبها الوفاق والوئام
ودوام العشرة ، وهذا مؤكد للمقصود الأصلي من مشروعية النكاح ، وهو حصول النسل
والولد([88]).
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي ورد التصريح فيها بالعلة التي من أجلها شُرع
الحكم ؛ لتحقيق مقصد عظيم من مقاصد الشارع.
الطريق
الثاني : استقراء الشريعة في تصرفاتها.
يقول
العز بن عبد السلام : ’’ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له
من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها ، وأن هذه –
المفسدة – لا يجوز قربانها ، وإن لم يكن فيها إجماع ولا قياس خاص ، فإن فهم نفس
الشرع يوجب ذلك‘‘([89]).
فإذا
كان فهم الشريعة يخلق الملكة القوية في معرفة المصالح والمفاسد المقصودة للشارع،
فإن ذلك لا يتم إلا باستقراء الشريعة في تصرفاتها واستقراء الشريعة نوعان :
النوع
الأول
: استقراء أحكام الشريعة التي عرفت عللها ، وذلك يكون باستقراء تلك العلل الثابتة
بطريق من الطرق المثبتة للعلية ، فإن باستقرائها يحصل العلم بمقاصد الشريعة بسهولة
؛ لأن استقراء العلل الكثيرة المتماثلة في كونها ضبطاً لحكمة متحدة يؤدي إلى
استخلاص حكمة واحدة والجزم بكونها مقصداً شرعياً.
فمثلاً
: نعلم أن النبي -ﷺ- نهى عن بيع التمر بالرطب حين سئل عنه فقال للسائل : « أينقص
الرطب إذا جف ؟ » قال السائل : نعم ، فقال -ﷺ- : « فلا إذن » . كما نعلم أن العلة
هي الجهل بمقدار أحد العوضين ، وهو الرطب منهما المبيع باليابس ؛ لأنه ينقص
بالجفاف ، وأن هذه العلة ثبتت بطريق الإيماء ، وهو ترتب الحكم على الوصف بالفاء ، فإذا
علمنا كذلك أن بيع الجزاف بالمكيل منهي عنه – أيضاً – لعلة الجهل بأحد العوضين
، وهو الجزاف ، وأن هذه العلة مستنبطة. وعلمنا – أيضاً – أن الشارع نهى عن
شراء ما بطون الأنعام حتى تضع ، لعلة هي الجهل والغرر ونحو ذلك من النصوص ، نستطيع
أن نستخلص من كل ذلك مقصداً شرعياً واحداً هو إبطال الجهالة والغرر في عقود
المعاوضات ، وبذلك نجزم أن كل تعاوض اشتمل على غرر أو جهل في الثمن أو المثمن فهو
تعاوض باطل([90]).
النوع
الثاني
: استقراء أدلة الأحكام التي اشتركت في علة واحدة وباعث واحد بحيث يحصل لنا اليقين
بأن تلك العلة مقصدٌ مرادٌ للشارع.
فمثلاً : نهى الشارع عن بيع الطعام قبل قبضه لعلة هي
طلب رواج الطعام في الأسواق ، كما نهى عن تلقي الركبان
لنفسه العلة([91]).
ونهى أيضاً عن الاحتكار في الطعام بحديث مسلم عن معمر مرفوعاً « من احتكر
طعاماً فهو خاطئ »([92])
لعلة هي إقلال الطعام من الأسواق وعدم رواجه ، كما نهى عن بيع حاضر لباد
لنفس العلة([93]).
فبهذا الاستقراء لهذه الأدلة يحصل لنا العلم بأن رواج الطعام وتيسير تناوله مقصد
من مقاصد الشريعة ، فنعمد إلى هذا المقصد فنجعله أصلاً ونقول : إن الرواج إنما
يكون بصور من المعاوضات توافق قصد الشارع ، كما أن الإقلال يكون بصور أخرى منها
تخالف قصد الشارع ؛ لأن الناس لا يتركون التبايع([94]).
ومن هذا القبيل الأدلة الكثيرة الواردة في شأن الرقيق وعتق
الرقاب في بعض الكفارات ، ومصارف الزكاة ، وفي الكتابة
والتدبير ، وأمهات الأولاد ، ونحو ذلك ... فبمجموعها حصل لنا العلم بأن مقصد
الشريعة هو حصول الحرية وتشوف الشارع إليها([95]).
الطريق
الثالث : من
الطرق التي يعرف بها مقاصد الشريعة : الاقتداء والاهتداء بالصحابة – رضوان
الله عليهم – في فهم الأحكام من الكتاب والسنة وتطبيقها على الوقائع ، وذلك لما توفر
فيهم من صدق الإيمان وفصاحة اللسان ، وأصول البيان ، ومعاصرتهم لنزول القرآن
ومشاهدتهم لمن كلف ببيان القرآن -ﷺ- بأقواله ، وأفعاله ، وتقريراته([96]).
بالإضافة إلى ما امتازوا به من دواعي الحفظ والوعي ، وصفاء السريرة والسيرة ،
وفطانة الذهن وحدته ، وطهارة القلب ، والانقياد والإخلاص لدين الإسلام وشريعته
العامة ، وطاعة رسوله ﷺ ، فهم هداية الأمة ، وقادة المجتهدين ، وسادة العلماء الحائزون
على تزكية أفضل الخلق -ﷺ-.
فهم
إذن أجدر الناس بفهم عبارات الشارع ، ومعرفة مقاصده ، فعن طريقهم وصلت الشريعة على
التابعين ، وتابعيهم ، والأجيال المتعاقبة إلى يومنا هذا ، وقد فهموا من مصادر التشريع
وموارده ، ومداخل أحكامه ومخارجه ومجاريه ومباعثه أن رسول الله ﷺ كان يتبع المعاني
والحكم عند التشريع ، فلم يعولوا عليها إلا لذلك.
كما
فهموا أن الشارع جوز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه كتقريره ﷺ
لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- حين قال :
" أجتهد رأيي ولا آلو ". وتنبيهه لهم على الحكم والنظائر ، والتسوية
بينها عند الاجتماع في المعاني المعقولة منها([97]).
وعليه
فإذا شاهد عموم الصحابة عملاً للنبي -ﷺ- حصل لهم علم بتشريع ومقصدٍ للشارع في ذلك
يستوي فيه جميع المشاهدين ، وإلى هذا يرجع العلم بقسم المعلوم من الدين بالضرورة ،
وقسم العمل الشرعي القريب من المعلوم ضرورة ، وأمثلة هذا النوع في العبادات كثيرة.
منها
: مشاهدتهم خطب النبي ﷺ في العيدين بعد الصلاة ، وفي الجمعة قبل الصلاة([98]).
ومنها : مشروعية الصدقة الجارية المعبر عن بعضها بالحبس ،
وهذا العمل هو الذي عناه الإمام ملك حين بلغه أن شريحاً([99]) يقول
بعدم انعقاد الحبس ، ويقول بأنه لا حبس عن فرائض الله. فقال مالك : رحم الله
شريحاً تكلم ببلاده - يعني الكوفة - ولم يرد المدينة فيرى آثار الأكبر من أزواج
النبي -ﷺ- وأصحابه والتابعين بعدهم وما حَبسوا من أموالهم، وهذه صدقات رسول الله -ﷺ-
سبع حوائط ، وينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبراً([100]).
فهو
يشير بذلك إلى أن الصحابة قد حبسوا وأموالهم وجعلوها صدقات جارية ، وأنه اهتدى
بفعلهم هذا على جواز الحبس ، ومثل هذا يفيد القطع.
كذلك
إذا شاهد آحاد الصحابة أعمال رسول الله -ﷺ- وتكررت مشاهدته لها ، فإنه يستطيع أن
يستخلص من مجموعها مقصداً شرعياً.
من
ذلك ما أخرجه البخاري عن الأزرق بن قيس قال : ’’كنا على شاطئ نهر بالأهواز قد نضب
عنه الماء ، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس ، فقام يصلي وخلى فرسه، فانطلقت الفرس
، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها ، فأخذها ثم جاء فقضى صلاته – أي أعاده – وفينا
رجل له رأي ، فأقبل يقول : ’’ انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس ‘‘. فأقبل – أي أبو برزة – فقال : ما
عنفني أحد منذ فارقت رسول الله -ﷺ- وقال : ’’ منزلي متراخ فلو صليت وتركت
الفرس لم آت أهلي إلى الليل ‘‘ ، وذكر أنه صحب رسول الله -ﷺ- فرأى من تيسيره .
فمشاهدة
الصحابي لأفعال رسول الله -ﷺ- المتعددة ، استخلص منها أن من مقاصد الشريعة التيسير
، ورأى أن قطع صلاته من أجل إدراك فرسه ثم العودة إلى استئناف صلاته أولى من
استمراره على صلاته مع تجسم مشقة الرجوع إلى أهله راجلاً مع بعد المسافة. فهذا
المقصد بالنسبة لأبي برزة مظنون ظناًّ قريباً من القطع ، لكن بالنسبة لغيره الذين
يروي لهم خبره محتمل ؛ لأنه يتلقى منه على وجه التقليد وحسن الظن به([101]).
وحيث
عرفنا الطرق التي بها تعرف مقاصد الشريعة ، فما هي الأدلة التي تُثْبت أن للشريعة
مقاصد ؟ هذا ما سنبينه في العنوان التالي.
===
الأدلة التي تثبت مقاصد الشريعة
عرفنا
فيما تقدم الطرق التي بها تعرف مقاصد الشريعة ، وهي في نفس الوقت تعتبر أدلة مثبتة
لمقاصد الشريعة ؛ لأن النصوص الصريحة المعللة ، واستقراء الأحكام وأدلتها ،
والاهتداء بما شاهده عموم الصحابة وآحادهم لأفعال النبي -ﷺ- قد دل على وجود مقاصد
للشارع من شرع الحكم ، ولا شك أن الوجود دليل على الثبوت وزيادة. فثبوت المقاصد –
إذن – في غاية الوضوح.
لكنا
سنضيف إلى ذلك بعض الأدلة لزيادة الأمر إيضاحاً فنقول : الأدلة التي تثبت أن
للشريعة مقاصد كثيرة ومتنوعة منها : النص ، والإجماع ، والمعقول ، نقتصر منها على
ما يلي :
1-
النصوص التي أخبر الله فيها سبحانه عن نفسه بأنه أرحم الراحمين ، وهي كثيرة منها :
قوله تعالى : ﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾([102])،
وقوله تعالى : ﴿ ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين
﴾([103])،
وقوله تعالى : ﴿ فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين
﴾([104])،
وقوله تعالى : ﴿ نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين
﴾([105]).
ورحمته
تعالى لا تتحقق إلا بأن يقصد رحمة خلقه بما خلقه لهم ، وبما أمرهم به وشرعه لهم ،
فلو لم تكن أوامره وشرعه لأجل الرحمة والحكمة والمصلحة وإرادة الإحسان إلى عباده
وكل هذا مقصد شرعي ، لما كانت رحمة ، وهذا لا يجوز ، يقول ابن القيم : ’’ فتعطيل
حكمته والغاية المقصودة التي لأجلها تفعل ، إنكار لرحمته في الحقيقة ‘‘([106]).
2-
النصوص التي أخبر فيها عن رسوله -ﷺ- بأنه بعث رحمة للعالمين ، وأنها المقصود من
إرساله : كقوله تعالى : ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
﴾([107]).
فهذه
الآية قد دلت على أن الرسول -ﷺ- ما بعث إلا رحمة من الله تعالى لعباده ، يقول
العضد : " ظاهر الآية التعميم ، أي يفهم منه مراعاة مصالحهم فيما شرع لهم من
الأحكام كلها ؛ إذا لو أرسل ﷺ بحكم لا مصلحة فيه ، لكان إرساله لهم لغير رحمة ،
لأنه تكليف بما لا فائدة فيه ، وهو مخالف لظاهر عموم الآية "([108]).
3-
النصوص التي صرح فيها تعالى بالتعليل ، وهي كثيرة منها ما ذكرناه في طرق معرفة
المقاصد ، ومنها ما يلي :
أ
– قوله تعالى : ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون
الرسول عليكم شهيداً ، وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول
ممن ينقلب على عقبيه ﴾([109]).
ب
– وقوله تعالى : ﴿ ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم
فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة ﴾([110]).
ج – وقوله تعالى : ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكـم بيـن النـاس بما أراك الله ﴾([111]).
د – وقوله تعالى : ﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾([112]).
إلى
غير ذلك من النصوص الكثيرة التي صرح فيها الله تعالى بالتعليل ، أو صرح به نبيه -ﷺ-
كقوله : « إنما جعل الاستئذان من أجل البصر »([113])،
وقوله : « إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة »([114]) ،
وكان قصد الشارع فيها واضح فدلت دلالة قاطعة على ثبوت المقاصد .
4-
النصوص التي دلت على إرادته تعالى التيسير ورفع الحرج ، كقوله تعالى : ﴿ وما
جعل عليكم في الدين من حرج ﴾([115])،
وقوله تعالى : ﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج
﴾([116])،
وقوله تعالى : ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر
﴾([117])،
فهذه الآيات تعتبر نصاً صريحاً في إثبات المقاصد حيث عبر سبحانه بأن اليسر ورفع
الحرج مراد ومقصود له سبحانه([118]).
5-
النصوص التي أخبر فيها سبحانه بأن حكمه أحسن الأحكام كقولـه تعـالى : ﴿ ومن
أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ﴾([119])،
فلولا أن حكمه تعالى مطابق للحكمة والمصلحة المقصودة المرادة لما كان كذلك ، لكنه
ثبت أن حكمه تعالى أحسن من حكم كل أحد ؛ لأنه يحقق مصالح لا تحصى ، فدل على مطابقة
حكمة تعالى للمصلحة([120]).
6-
النصوص التي جاءت عامة تشمل تحقيق جميع المصالح ، كقوله تعالى : ﴿ إن
الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
يعظكم لعلكم تذكرون ﴾([121]).
فقد
أمر الله تعالى بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء والمنكر
والبغي ، وهذا أمر بالمصالح وأسبابها ، ونهي عن المفاسد وأسبابها ، قال ابن مسعود رضي
الله عنه : " هذه أجمع آية في القرآن ، لخير يمتثل وشر يجتنب ، ولو لم يكن
فيه غير هذه الآية لكفت في كونها بياناً لكل شيء وهدى "([122]). وقال
العز بن عبد السلام : " وأجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها ، والزجر
عن المفاسد بأسرها قوله تعالى : ﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ...
﴾ الآية "([123]).
ومن
السنة أيضاً : قوله -ﷺ- : « الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها شهادة أن لا إله إلا
الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق »([124]). فقد
جمع النبي -ﷺ- حقيقة الدين بين طرفين اثنين ، بدأ أولهما بعقيدة التوحيد وهو
أعلاها ، وانتهى بآخر الطرف الثاني وهو أدناها : إماطة الأذى عن الطريق وهو أبسط
نموذج لخدمة المقاصد العامة ، وبذلك ندرك أن
مقاصد الشارع محصورة بين وجوه المصالح كبيرة كانت أو صغيرة . يؤيد ذلك قوله ﷺ :
« كل سلامى([125])
من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة ، وتعين
الرجل في دابته ، فتحمله عليها ، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميـط
الأذى عن الطريـق صدقة »([126]).
كل
هذا يؤكد أن كل عمل – صغيراً كان أو كبيراً – يشرعه الشارع له فيه مقصد ومصلحة
تعود على الخلق([127]).
هذا
بالإضافة إلى نصوص أخرى كثيرة في الكتاب والسنة وفي كل منها تصريح بمقصد شرعي أو
تنبيه عليه .
ثانياً
: إجماع الصحابة : لقد صدرت وقائع من آحاد الصحابة قد روعي فيها مقاصد الشريعة
، غما تصريحاً أو تلميحاً ، ولم ينكر عليهم ذلك من باقيهم ، فكان إجماعاً منهم على
أن مقاصد الشريعة واجبة الاعتبار.
من
ذلك إجماعهم على جمع صحف القرآن الكريم في مصحف واحد ، بناءً على إشارة عمر بن
الخطاب رضي الله عنه ، وقوله حين تردد أبو بكر : ’’إنه والله خير ومصلحة
للمسلمين‘‘ وذلك محافظة على حفظ الدين. وإجماع الصحابة أيضاً على قتال مانعي
الزكاة بإشارة من أبي بكر رضي الله عنه ، فهذا يثبت مقصداً شرعياً هو حفظ الدين
والمال.
أما
المعقول
فمن وجهين :
الأول
:
أن الله تعالى خلق الإنسان وكرمه وجعله في أحسن تقويم ، لقولـه تعالى : ﴿ ولقد كرمنا بني آدم
﴾([128])،
وقوله تعالى : ﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾([129])،
ومن لازم ذلك أن يحقق للإنسان مصالحه على أكمل وجه ، وإلا لم يكن مكرماً فيتخلف
خبره تعالى ، وهو لا يجوز.
الثاني
:
من المعلوم لدى العقلاء أن الله تعالى راعى مصالح العباد في مبدئهم ومعاشهم ، حيث
أوجدهم من العدم ، وسخر لهم النعم ، وامتن عليهم ؛ لقوله تعالى : ﴿ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً
﴾([130])
وقوله تعالى : ﴿ ألم تروا أن الله سخر لكم ما في
السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ﴾([131]). وحيث
عرف ذلك فمن المحال عقلاً أن يراعى الله عز
وجل مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم ، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية
التي فيها مصلحة معاشهم أيضاً ؛ إذ بها صيانة دمائهم وأموالهم وأعراضهم ولا معاش
بدونها ، بل هي أعم من كل ذلك ، وحيث ثبت إحالة ذلك وجب القول بأن الشارع راعى
مصالحهم في التشريع ، وهو المدعى([132]).
مراتب المقاصد
فعليه
– إذن – أ لا يُعَيّن مقصداً شرعياً إلا بعد استقراء تصرفات الشارع في النوع الذي
يريد انتزاع المقصد الشرعي منه ، وبعد اقتفاء آثار أئمة الفقه ليستضيء بأفهامهم ،
وما حصل لهم من ممارسة قواعد الشرع ، فإن هو فعل ذلك اكتسب قوة استنباط يفهم بها
مقصود الشارع.
والحاصل
للباحث عن المقاصد الشرعية قد يكون علماً قطعياً ، أو قريباً منه ، وقد يكون ظنياً
، أما العلم الضعيف فغير معتبر([133]).
وعلى
هذا يمكن حصر مراتب مقاصد الشريعة في مرتبتين ، أو ثلاث إذا جعلنا المقاصد القريبة
من القطعي مرتبة مستقلة ، وإليك البيان :
المرتبة
الأولى :
المقاصد القطعية ، وهي ما كان العلم الحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية قطعياً ، أو
هي ما يؤخذ من متكرر أدلة القرآن الكريم والسنة تكراراً ينفي احتمال قصد المجاز
والمبالغة ، وقد مُثِّل لها : بالآيات والأحاديث الدالة على أن مقصد الشارع
التيسير ورفع الحرج ، كقوله تعالى : ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريـد بكم
العسر
﴾([134])،
فورود قوله تعالى : ﴿ ولا يريـد بكم العسر
﴾ بعد قوله : ﴿ يريد بكم اليسر ﴾ قد أكد دلالة
الآية وجعلها قريبة من النص على التيسير الذي لا يحتمل تأويلاً ، وقد تأكد ذلك بقوله تعالى : ﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾([135])،
وقوله تعالى : ﴿ يريد الله أن يخفف عنكم
﴾([136])،
وبقوله ﷺ : « بعثت بالحنيفية السمحة »([137])،
وقوله ﷺ : « إن هذا الدين يسر وليس بالعسر »([138])،
وقوله ﷺ : « إنما بعثتم ميسرين »([139])،
وقوله ﷺ لمعاذ وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن : « يسرا ولا تعسرا »([140])،
وحديث عائشة وقولها : « ما خير ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً » ([141]).
فمن
هذا كله – وأمثاله – نستطيع أن نقول : إن من مقاصد الشريعة التيسير ، وأن هذا
مقطوع به ؛ لأن الأدلة المستقرأة في ذلك كله عمومات متكررة ، وكلها قطعية بالنسبة إلى الشارع ؛ لأن منها من القرآن وهو قطعي
المتن والنسبة إلى الشارع ، ومنها من السنة فهو وإن كان ظني النسبة إلى الشارع إلا
أنه بانضمامه إلى القرآن صار قطعي الدلالة([142]).
المرتبة
الثانية :
المقاصد القريبة من القطعي ، وهي ما يرجع العلم الحاصل للباحث عن المقاصد إلى أصل
قطعي ، وليس بقطعي ، وإنما هو ظني ، مثاله : قوله ﷺ : « لا ضرر ولا ضرار »([143])، فإن
هذا الحديث مع أنه ظني لأنه خبر آحاد ، إلا أنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى ؛
لأن الضرر والضرار ثابت منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات وقواعد كليات ، كقوله تعالى : ﴿ ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا
﴾([144])، وقولـه
تعالى
: ﴿ ولا
تضاروهن لتضيقوا عليهن ﴾([145]) وقوله
تعالى : ﴿ لا
تضار والدة بولدها ﴾([146]).
ومن
القريب من القطعي أيضاً : النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض ، وعن
الغصب والظلم ، وكل ما فيه إضرار وضرر ، وكذا الجناية على النفس والعقل والنسل
والمال ، كل هذا قريب من القطعي ؛ لأنه ثبت بنصوص ظنية متكررة . فهو معنى في غاية
العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك ، وهو من مقاصد الشريعة القريبة من القطعي .
المرتبة
الثالثة :
المقاصد الظنية ، وهي ما كان العلم الحاصل للباحث عن المقاصد الشرعية ظنياً ، أو
هي ما يؤخذ من استقراء غير كبير لتصرفات الشريعة ؛ لأن الاستقراء – وإن كان صغيراً
– إلا أنه يكسب علماً باصطلاح الشارع وما يراعيه في التشريع. فإن من تتبع مقاصد
الشرع – كما قال العز بن عبد السلام – في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من
مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها ، وأن هذه المفسدة لا
يجوز قربانها ، وإن لم يكن فيها نص ولا إجماع ولا قياس خاص ، فإن فهم نفس الشرع
يوجب ذلك([147]).
كما أن من عاشر إنساناً من الفضلاء الحكماء العقلاء وفهم ما يحبه وما يكرهه ، ثم
سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فيها ، فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته
وألفه من عادته أن يختار ما يحب ويؤثر تلك المصلحة ، ويكره تلك المفسدة مع أنه لم
يعرف رأي من عاشره فيها. مع ملاحظة أن مراتب الظنون في فهم مقاصد الشريعة متفاوتة
بحسب تفاوت الاستقراء المستند إلى مقدار ما بين يدي الناظر من الأدلة ، وبحسب خفاء
الدلالة وقوتها ، فإن دلالة تحريم الخمر على كون مقصد الشريعة حفظ العقول
عن الفساد العارض دلالة واضحة ، ولذلك لم يختلف المجتهدون في تحريم القدر
الذي يصل بالشارب إلى حد الإسكار. وأما دلالة تحريم الخمر على أن مقصد الشريعة سد
ذريعة إفساد العقل حتى نأخذ من ذلك المقصد تحريم القليل من الخمر ، وتحريم النبيذ
الذي لا يغلب إفضاؤه إلى حد الإسكار ، فهذه دلالة خفية ، ولذلك اختلف في
مساواة تحريم شرب قليل الخمر بكثيره ، وفي مساواة تحريم الأنبذة لتحريم الخمر ،
فمن غلب ظنه بذلك سوى بينهما في التحريم وإقامة الحد والتجريح في عدالته. ومن فرَّق
بينهما لم يسو بينهما في تلك الأمور . كما يلاحظ أيضاً أن المقاصد الظنية
يختلف قوة وضعفاً حسب احتمال قيام المعارض لشواهد استقراء الفقيه ، فإن كانت شواهد
الأدلة بينة واضحة لا يشذ منها شيء كان الظن قوياً ، فإن شذ منها القليل
كان الظن أقل قوة ، فإن امتد احتمال المعارض كان الظن بالمقصد الشرعي ضعيفاً([148]). وما
يحصل للناظر الفقيه من ظن ضعيف ، أو دونه لا يعتد به شرعاً ولا يعتبر ، غاية الأمر
أنه يفرضه فرضاً مجرداً ليكون تهيئة لناظر يأتي بعده كما أوصى رسول الله ﷺ بقوله :
« فرب حامل فقه على من هو أفقه منه »([149]).
ضابط المقاصد أو الصفة الضابطة لها
فأما
المعاني الحقيقية : فهي التي لها تحقق في نفسها ، بحيث تدرك العقول السليمة
ملاءمتها للمصلحة أو منافرتها لها – أي تكون جالبة نفعاً عاماً أو ضرراً عاما –
إدراكاً مستقلا عن التوقف على معرفة عادة أو قانون ، كإدراك كون العدل نافعاً ،
وكون الاعتداء على النفوس ضاراً. وقيدت العقول بالسليمة لإخراج مدركات العقول
الشاذة ، كمحبة الظلم في الجاهلية([150]).
وأما
المعاني العرفية العامة ، فهي المُجرَّسبات التي ألفتها نفوس
الجماهير واستحسنتها استحساناً ناشئاً عن تجربة ملاءمتها لصلاح الجمهور كإدراك كون
الإحسان معنى ينبغي تعامل الأمة به ، وكإدراك كون عقوبة الجاني رادعة إياه العود
إلى مثلها.
وقد
اشترط لهذين النوعين : الثبوت ، والظهور ، والانضباط ، والاطراد.
فأما
الثبوت : فمعناها : أن تكون المعاني مجزوماً بتحققها ، أو مظنوناً ظناً قريباً من
الجزم.
والمراد
بالظهور : الاتضاح بأن تكون المعاني واضحة لا يختلف الفقهاء في تشخيصها ، ولا
تلتبس على معظمهم لمشابهتها لغيرها ، مثل : حفظ النسب الذي هو المقصد من مشروعية
النكاح ، فهو معنى ظاهر لا يلتبس بغيره.
والمراد
بالانضباط : أن يكون للمعنى حد معتبر لا يتجاوزه ولا يقتصر عنه ، بحيث يكون القدر
الصالح منه – لكي يكون مقصداً شرعياً – قدراً غير مشكك ، مثل حفظ العقل إلى القدر
الذي يخرج به العاقل عن تصرفات غير العقلاء الذي هو المقصد من مشروعية التعزير
بالضرب عند الإسكار.
والمراد
بالاطراد : أن لا يكون المعنى مختلفاً باختلاف أحوال الأقطار والقبائل والأعصار
مثل : وصف الإسلام ، والقدرة على الإنفاق في تحقيق مقصد الملاءمة للمعاشرة المسماة
بالكفاءة المشروطة في النكاح في قول مالك – رحمه الله – وجماعة من الفقهاء.
فإن
اختل وصف الاطراد أو غيره من الشروط لم تصلح أن تكون المعاني مقصداً شرعياً
معتبراً أو غير معتبر. بل يوكل المقصد الشرعي إلى نظر علماء الأمة وولاة أمورها
الأمناء المخلصين أهل الحل والعقد ليعينوا لها
الوصف الجدير بالاعتبار في أحد الأحوال دون غيره ، وذلك مثل القتال ، فقد
يكون ضراً إذا كان لشق عصا الأمة ، وقد يكون نفعاً إذا كان لدفع العدو ، ولذلك أمر الشارع بالصلح بينهما في
الأولى بقولـه : ﴿ فأصلحـوا بينهما ﴾([151])
إلا إذا بغت إحداهما على الأخرى فأمر بقتال الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وتسمع
للحق وتطيعه ، وأمر بالقتال في الثانية بقوله : ﴿ وقاتلوا في سبيل
الله
﴾([152]).
فإن قامت أدلة شرعية على أن الشريعة اعتبرت من مقاصدها معاني اعتبارية أو معاني
عرفية خاصة احتاجت إليها الشريعة لتحصيل نفع عام أو دفع ضرر عام ، وجب على الفقيه
سبر تلك الاعتبارات حتى يحصل له الظن بأنها مقصودة للشارع فيثيبها في مسائلها ولا
يجاوزها إلى غيرها.
هذا
وهناك معان أخرى تلحق بالحقيقية وبالعرفية العامة : فيلحق بالمعاني الحقيقية :
المعاني الاعتبارية القريبة من الحقيقية ، وهي المعاني التي لها حقائق متميزة عن
بقية الحقائق، ولكنها غير موجودة إلا في اعتبار العقلاء ، بحيث لا مندوحة للعقل عن
تعقلها ؛ لأن لها تعلقاً بالحقائق ، ولكن وجودها تابع لوجود حقيقة واحدة مثل
الزمان والمكان ، أو حقيقتين مثل الأبوة والبنوة.
ويلحق
بالمعاني العرفية العامة : المعاني العرفية الخاصة ، وهي التي تلحق ويقترب من
المعاني العرفية العامة وليست بعامة ، وذلك كاعتبار الذكورة شرطاً في الولايات القضائية
وفي الإمارة ، بناء على العرف العام المطرد في العالم يومئذ([153]).
يتلخص
من هذا :
أن المقاصد الشرعية : 1- قد تكون معان حقيقية لها تحقق في الخارج وتلحق بها
المعاني الاعتبارية القريبة من الحقيقية. 2- وقد تكون معان عرفية عامة متحققة ،
وتلحق بها معان عرفية خاصة تقرب من المعاني العرفية العامة([154]).
أما
الأوهام : وهي المعاني التي يخترعها الوهم من نفسه دون أن تصل إليه من شيء
محقق في الخارج ، كتوهم كثير من الناس أن في الميت معنى يوجب الخوف منه أو النفور
عنه عند الخلوة به. وكذلك التخيلات : وهي المعاني التي تخترعها قوة الخيال
بمعونة الوهم بأن يُرَكِّبها الخيال من عدة معان محسوسة محفوظة في الحافظة ،
كتمثيل صنف من الحوت بأنه خنـزير بحري ، وبالتالي لا يجوز أكله ، فليس شيء من هذين
يصلح لأن يعد مقصداً شرعياً ؛ لأن الشريعة الإسلامية – بعد استقرائها – لا تراعي
الأوهام والتخيلات ، بل تأمر بنبذها ، ولا تبني حكماً على واحد منهما([155]).
من
ذلك ما جاء في الموطأ أن رسول الله -ﷺ- رأى رجلاً يسوق بدنة([156])، فقال
له : « اركبها » فقال : يا رسول الله : إنها بدنة. فقال -ﷺ- : « اركبها ويلك »([157]).
فتأخر الرجل في تنفيذ أمر النبي -ﷺ- يحتمل أنه لتوهمه أن البدنة لا يجوز ركوبها ،
ولو ركبها لاستحق الغرم والإثم لكونها مقلدة للحج. أو أنه كان يتوهم عدم ركوبها
كما هي عادة أهل العرب في الجاهلية ، فأراد ﷺ أن يبطل للرجل ما توهمه أو تخيله.
ومنه
أيضاً : أن عبد الله بن عمر كفن ابنه واقد حين مات بالجحفة وهو محرم وقال : ’’لولا
أننا حرم لطيبناه‘‘ أي : ما منعهم من تطييبه إلا أن الجماعة كلهم محرمون لا يجوز
لهم مس الطيب([158]).
قال
مالك : ’’وإنما يعمل الرجل – يعني بالتكاليف – ما دام حيا ، فإذا مات فقد انقضى
العمل‘‘([159]).
فقول
ابن عمر : ’’لولا أننا حرم لطيبناه‘‘ يفيد أن المانع من تطيبه هو إحرام الأحياء لا
الأموات – وعليه فهو يرى – ومن بعده مالك وأبو حنيفة – تطييب المحرم وتخمير رأسه،
لأن القول بعدم تطييب المحرم وعدم تخمير رأسه إنما كان بناء على توهم أنه يعامل
معاملة المحرم الحي في ذلك ، فأراد أن يبطل هذا الوهم([160]).
وبناء على هذا قالوا – أي المالكية والحنفية – : في حديث المحرم الذي وقصته ناقته
: « لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيباً ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً »([161])، إما
أنه قد نسخ بحديث عبد الله بن عمر ، أو أن هذا كان لخصوصية في الرجل قد علم الله
تعالى سراً أوجب اختصاص هذا المحرم بتلك المزية ، بدليل تعليله وإرجاعه الضمير إلى
الرجل ، ولو أراد التعميم والتحريم في كل محرم لقال -ﷺ- : « فإن المحرم يُبْعث الخ
... » كما قال في الشهيد : « إن الشهيد يبعث يوم القيامة ودمه يثعب »([162]).
فإن
قالوا – يعني الشافعية ومن وافقهم – : إن الأصل إن كل ما ثبت لواحد في عهد النبي -ﷺ-
يثبت لغيره ، فيكون عاما ، ويعمل بعمومه إلى أن يظهر ما يخصصه.
أجاب
المالكية ومن وافقهم : بأن ما تقولونه فيه تعسف ؛ لأن التخصيص ظاهر من التعليل ،
وعود الضمير إلى الرجل ، وعدوله -ﷺ- عن أن يقول : فإن المحرم إلى قوله : « فإنه
يبعث الخ ... » .
حتى
وإن سلمنا عدم ظهور التخصيص ، فهي واقعة عين خاصة ، ووقائع العين لا عموم لها لما
يتطرق إليها من الاحتمال ، وذلك كاف في إبطال الاستدلال([163]).
والراجح
–
توفيقاً بين النصوص – أن النهي عن تطيب المحرم الذي وقصته ناقته لم يكن خاصاً به ،
وإنما هو عام في كل محرم ، لكن النهي كان لأجل الأحياء حتى لا يتلطخ محنطوه
المحرمون بالطيب ، وليس لأجل الميت ، وجعل حرمانه من الحنوط والطيب والتخمير سبباً
لحشره ملبياً تنويهاً لشأن الحج ، وعليه فلا مانع من تخمير رأسه وتطييبه إذا قام
به غير محرمين. مثله مثل الشهيد ، فقد نهى النبي -ﷺ- عن غسل الشهيد ، والنهي ليس
لبقاء دمه في جروحه يبعث به يوم القيامة ، وإنما لأجل الأحياء المجاهدين حتى لا
ينشغلوا بغسله عن الجهاد ، وجعل عدم غسله سبباً لبعثه يوم القيامة ودمه يتفجر ،
تنويهاً بشأن الجهاد وجبراً لخواطر ذويهم وأهليهم([164]).
انتهى
كذلك
أبطل الإسلام أحكام التبني التي كانت في الجاهلية وفي صدر الإسلام ، لكونها قائمة
على أمر وهمي غير حقيقي.
وقد
يقارن المعنى الحقيقي الذي هو مناط التشريع معنى وهمياً يغطي عليه في نظر عموم
الناس ، فعند ذلك ينبغي على الفقيه أن يتأمل ذلك ويتعمق حتى يظفر بما يزيل الوهم.
من
ذلك : النهي عن غسل الشهيد في الجهاد لقوله ﷺ في الشهيد : « إنه يبعث يوم القيامة
ودمه يثعب ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك »([165]).
فيتوهم كثير من الناس أن علة ترك غسله هي بقاء دمه في جروحه يبعث بها يوم القيامة
، وليس كذلك ؛ لأنه لو غسل جهلاً أو نسياناً أو عمداً ، لما بطلت تلك المزية. ولكن
علة النهي أن الناس في شغل – بالجهاد – عن التفرغ بغسل موتى الجهاد ، فلما علم
الله تعالى ما يحصل من انكسار خواطر أهل الجهاد حين أصابتهم بالجراح ودفنهم على
تلك الحالة ، وعلم انكسار خوطر أهليهم وذويهم ، عوضهم عن ذلك بتلك المزية الجليلة.
وكذلك
الأمر بستر العورة للمصلي الذي يصلي في خلوته ، فربما توهم متوهم أنه لا يسترها ؛
لأن الستر من أجل عدم رؤيتها من الآخرين ، وإنما للحرص على عدم الاستخفاف بالعادات
الصالحة تحقيقاً لمعنى المروءة وتعويداً عليها([166]).
هذا
وهناك أحكام منوطة بمعان وحكم لم تظهر لنا : كاستقبال القبلة ، واستلام الحجر،
والطهارة بالتيمم ، فإن هذه الأمور لا نبحث عن عللها ومعانيها ، كما لا يليق أن
نصف المعاني الظاهرة منها بأنها وهمية ، وإنما علينا أن نجعلها من التعبديات
التي لا تدرك معانيها ، وإنما استأثر الله تعالى بها لنفسه.
مع
ملاحظة : أن الأمور الوهمية وإن لم تصلح أن تكون مقصداً للشارع في التشريع إلا أنه
تصلح أن يستعان بها لتحقيق مقاصد شرعية ، بأن تكون طريقاً للدعوة والموعظة ترغيباً
وترهيباً كقوله تعالى : ﴿ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً
﴾([167])،
فإن الذي يغتاب أحداً كأنه أكل لحمه ميتا ، هذا للترهيب من الغيبة ، فعلى الفقيه –
إذن – أن يفرق بين مقام الموعظة والدعوة التي تصلح فيها الأوهام ، وبين مقاصد
الشريعة التي لا تصلح فيها الأوهام ، فلا يصح للفقيه أن يبني الأحكام الفقهية على
الأوهام ، فيقول – مثلاً – أن الصائم الذي يغتاب أحداً يفطر ؛ لأنه أكل لحم أخيه
كما نصت الآية ؛ لأنه حكم مبني على وهم وخيال([168]).
المقصد العام من التشريع هو حفظ النظام إلى جلب المصالح ودرء
المفاسد
والصلاح
والإصلاح إنما يكون قدر الاستطاعة ، ولذلك قال الله تعالى حكاية عن رسوله شعيب
وتنويهاً به : ﴿ إن أريد إلا الإصـلاح ما استطعـت وما توفيقـي إلا
بالله
﴾([169]).
ولقد
عالج الإسلام صلاح الإنسان بصلاح أفراده الذين هم أجزاء نوعه ، وبصلاح مجموعه وهو
النوع كله ، فابتدأ الدعوة بإصلاح العقيدة والاعتقاد الذي هو إصلاح مبدأ التفكير
الإنساني الذي يسوقه إلى التفكير الحق في أحوال هذا العالم.
ثم
عالج الإنسان بتزكية نفسه وتصفية باطنه ، لأن الباطن يحرك الإنسان إلى الأعمال
الصالحة ، كما ورد في الحديث الشريف : « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد
كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب »([170]).
وقد
قال بعض الحكماء : ’’الإنسان عقل تخدمه الأعضاء‘‘. ثم عالج بعد ذلك إصلاح العمل ،
وذلك بتفنن التشريعات كلها.
وصلاح
الإنسان لا يحصل دفعة ، وإنما يكون بالتدرج في مدارج تزكية النفس ، وذلك بقدر
استعداده للكمال وسعيه إليه([171]).
هذا
وهناك أدلة كثيرة دلت على أن مقصد الشارع من التشريع هو الإصلاح وإزالة الفساد ،
وذلك في تصاريف أعمال الناس. من هذه الأدلة ما هو صريح في الدلالة ، ومنها
ما دل على ذلك بطريق الإيماء .
أما الصريح ، فكقوله تعالى : ﴿ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا
تتبع سبيل المفسدين ﴾([172])،
وقوله تعالى : ﴿ ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد
إصلاحها
﴾([173])،
وقوله تعالى : ﴿ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ﴾([174])،
وقوله تعالى : ﴿ ولا تعثوا في الأرض مفسدين
﴾([175])،
وقوله تعالى : ﴿ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا
أرحامكم ، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ﴾([176]).
أما
ما دل على ذلك بطريق الإيماء :
فمنها ما امتن به تعالى على عباده الصالحين ، فقال تعالى :
﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي
الصالحون ﴾([177])،
وقال مخاطباً المسلمين : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف
الذين من قبلهم ﴾([178])،
وقال تعالى في معرض الوعد : ﴿ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة ﴾([179]).
فلولا
أن صلاح هذا العالم مقصود للشارع ما امتن به على عباده الصالحين([180]). ولما
أومأ إلى أن العمل الصالح سبب للحياة الطيبة في الدنيا والآخرة ، كذلك لم يقتصر
الشارع الحكيم على مجرد صلاح العقيدة ، وصلاح العمل بالعبادة المنوه عنهما ، وإنما
أضاف إلى ذلك إرادته تعالى صلاح أحوال الناس وصلاح شئونهم في الحياة الاجتماعية ،
وحذر من فساد موجودات هذا العالم ، فقال تعالى : ﴿ وإذا تولى سعى في
الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ﴾([181])، كما
أقامت الشريعة نظام الحق وجعلته مانعاً للفساد ، وذلك لإصلاح معاملة الناس بعضهم
مع بعض فقال تعالى : ﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات
والأرض ومن فيهن ﴾([182]).
هذا
بالإضافة إلى آيات أخرى كثيرة في القرآن الكريم ذكر فيها الصلاح في معرض الحث
والمدح ، وذكر فيها الفساد في معرض التحذير والذم تركناها اكتفاء بما ذكر من أدلة
صريحة .
فمن
عموم هذه الأدلة ونحوها حصل لنا اليقين بأن المقصد الأعظم من التشريع هو حفظ
النظام العام بجلب المصالح ودرء المفاسد ، وأن الشريعة الإسلامية متطلبة لجلب
المصالح ودرء المفاسد ، وأن ذلك يعتبر قاعدة كلية في الشريعة([183]).
وحيث عرفنا ذلك ناسب أن نبين معنى المصالح والمفاسد ، وهو ما سنوضحه في العنوان التالي.
معنى المصالح والمفاسد
المصالح في اللغة :
جمع مصلحة وهي المنفعة ، والمصلحة مصدر بمعنى الصلاح ، كالمنفعة بمعنى النفع –
وزناً ومعنى – فهي تطلق على المنفعة إطلاقاً حقيقياً.
وقد
تطلق المصلحة على ذات الفعل الجالب للنفع ، والدافع للضرر على سبيل المجاز
من باب إطلاق اسم المسبب على السبب ، فأطلق اسم المصلحة التي هي حاصلة بسبب الفعل
على الفعل نفسه الذي هو سبب لها ، كما تقول : التجارة مصلحة ، أي سبب للمنافع
المادية ، و العلم مصلحة ، أي سبب للمنافع المعنوية([184]). وهي
صادقة على كل ما كان فيه نفع سواء أكان بالجلب والتحصيل : كاستحصال الفوائد
واللذائذ الملائمة ، أم كان بالدفع والاتقاء : كاستبعاد المضار والآلام.
المصالح في الاصطلاح
:
عرفت
المصالح في اصطلاح العلماء بتعاريف عدة تبعاً لتعريفهم للمصلحة ، أذكر بعضاً منها
على النحو التالي :
1-
تعريف الغزالي :
عرف
الغزالي المصلحة بأنها في الأصل : عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة. ثم بين مقصوده
من المصلحة فقال : ’’ولسنا نعني بها ذلك ، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد
الخلق ، وصلاح الخلق في تحقيق مقاصدهم ، ولكننا نعني بالمصلحة : المحافظة على
مقصود الشرع ، ومقصود الشرع من الخلق خمسة ، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ، ونفسهم ،
وعقلهم ، ونسلهم ، ومالهم ، فكل ما يتضمن هذه الأصول فهو مصلحة ، وكل ما يفوت هذه
الأصول فهو مفسدة ، ودفعه مصلحة([185]).
وعليه
فالمصالح عنده هي عبارة عن جلب المنافع أو درء المفاسد ، أو هي كل ما يحافظ على
مقصود الشارع من الخلق ، وهو حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم ونسلهم.
2-
تعريف الرازي :
عرف
الرازي المصلحة بأنها : عبارة عن المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ
دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم ، طبق ترتيب معين فيما بينها([186]).
والمنفعة – عنده – هي اللذة تحصيلاً وإبقاءً ، فالمراد بالتحصيل : جلب اللذة
مباشرة. والمراد بالإبقاء : الحفاظ عليها بدفع المضرة وأسبابها([187]).
وعلى
هذا فالمصالح – عنده – هي المنافع واللذات التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ
دينهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم ونسلهم ، وحافظ عليها بدفع المضار وأسبابها.
3-
تعريف الشاطبي :
عرف
الشاطبي المصلحة بأنها : ما يؤثر صلاحا أو منفعة للناس عمومية أو خصوصية ، وملاءمة
قارة في النفوس في قيام الحياة([188]).
4-
تعريف ابن عاشور :
عرف
ابن عاشور المصلحة بأنها : وصف للفعل يحصل به الصلاح – أي النفع منه – دائما أو
غالبا للجمهور أو للآحاد .
وقصد
بدوام المصلحة : أن تكون خالصة مطردة ، وبكونها غالبة : أي راجحة في جميع الأحوال ([189]).
الترجيح
:
يلاحظ
أن التعاريف السابقة متقاربة غير أن أقربها هو تعريف الرازي ؛ لاتفاقه مع ما يقصده
الغزالي الذي يمثل اتجاه المتقدمين .
ثانيا
: المفاسد :
المفاسد
في اللغة : جمع مفسدة . والمفسدة هي المضرة ، وهي مصدر بمعنى الفساد ، كالمضرة
بمعنى الضرر وزناً ومعنىً ، وإطلاقها على المضرة حقيقي .
وقد
تطلق المفسدة – إطلاقا مجازيا – على ذات الفعل الجالب للضرر على سبيل المجاز من
باب إطلاق اسم المسبب على السبب على النحو الذي قلناه في المصلحة .
فالمفسدة
كما تتحقق بفعل ما يجلب المضار تتحقق أيضا بترك ما يحقق المصالح ([190]).
وفي
اصطلاح العلماء : هي ما تقابل المصلحة . وعليه يمكن تعريفها بناء على اصطلاح
الرازي في تعريف المصلحة بأنها : « عبارة عن المضرة التي قصد الشارع الحكيم دفعها
عن عباده ، ليحفظ عليهم دينهم ونفوسهم وعقولهم وأموالهم ونسلهم » .
وتعرف
عند ابن عاشور بأنها : « وصف للفعل يحصل به الفساد والضرر دائما أو غالبا للجمهور
أو للآحاد ([191]).
الضابط الذي به تعرف المصلحة من المفسدة .
بعد
أن عرّف ابن عاشور المصلحة والمفسدة بيَّن أن المصلحة :
1-
قد تكون عامة : وهي
ما فيه صلاح عموم الأمة أو الجمهور ولا يلتفت فيها إلى الأفراد إلا من حيث إنهم
أجزاء من مجموع الأمة مثل : حفظ الأموال من الإحراق والإغراق ، ومعظم فروض الكفاية
كطلب العلم الديني والجهاد ونحوهما .
2-
وقد تكون المصلحة
خاصة : وهي ما فيه نفع لآحاد الأمة وأفرادها باعتبار صدور الأفعال من آحادهم ، ليحصل بإصلاحهم صلاح المجتمع المركب منهم
، فالمراعى فيها بداية الأفراد . أما العموم فيحصل لهم النفع تبعا لذلك ، مثل :
حفظ مال السفيه من السرف بالحجر عليه مدة سفهه ، ففي هذا نفع خاص لصاحل المال
ليجده عند رشده ، أو وارثه من بعده ، ولا نفع فيه للجمهور بداية ، ولكن النفع قد
يعود عليهم فيما بعد ؛ لأن حفظ مال السفهاء يعود على جمهور الأمة .
على
أن المتتبع للمصالح الخفية يجد معظمها قد روعي فيه النفع العام ، فمثلا : دية
القاتل خطأ تتحملها عاقلة القاتل وقرابته ، ففي ظاهر الأمر لا مصلحة فيها ولا نفع
لدافعها وهو العاقلة ، بل فيه مضرة لهم ، والنفع متحقق للقاتل ، لكن بعد التأمل
نجد فيها نفع عام لهم جميعا - للعاقلة والقاتل وغيرهما كأهل المقتول – متمثل في :
1-
حق المواساة عند الشدائد وذلك بتحمل جماعتهم المصائب العظيمة .
2- نزع الضغائن والأحقاد من قلوب أهل القتيل التي قد تدفعهم
إلى الفتك بالقاتل .
3- الرفق بالقاتل الذي لم يقصد القتل ، حتى لا يترك بمفرده
لدفع الدية فيصير بعدها فقيرا .
فبذلك تحقق من تحمل
العاقلة الدية مقصد : الأمن ، والمواساة ، والرفق بالقاتل خطأ([192]).
ثم
بيَّن ابن عاشور أن تحقيق الحد الذي به يعرف كون الوصف مصلحة أو مفسدة أمر دقيق ؛
لأن وجود النفع الخالص والضر الخالص بالنسبة للضر والنفع المشوبين عزيز([193])،
ولذلك يقول العز بن عبد السلام :
"
واعلم ، أن المصالح الخالصة عزيزة الوجود ، فإن تحصيل المنافع المحضة للناس :
كالمأكل والمسكن لا يحصل إلا بالسعي في تحصيلها بمشقة الكد والنصَب ، فإذا حصلت
فقد اقترن بها من المضار والآفات ما ينَغِّصها "([194]).
وعليه
فالمصالح والمضار الخالصة وإن كانت عزيزة إلا أنها موجودة ، فالتعاون الواقع بين
شخصين - مثلا – فيه مصلحة خالصة لكل منهما ، ولا مضرة فيه لهما أو لأحدهما .
وإحراق مال لأحد الأشخاص فيه إضرار خالص له ([195]).
لهذا كان من اللازم وضع ضوابط أو طرق يُعرَف بها كون الوصف مصلحة أو مضرة .
وقد
وضع الطاهر بن عاشور هذه الضوابط وجعلها واحدا من أمور خمسة :
أولها
: أن يكون النفع والضر محققا مطردا .
فالنفع
المحقق مثل : الانتفاع بنور الشمس ، وانتشاق الهواء ، والتبرد بماء النهر أو البحر
عند شدة الحر .
والضرر
المحقق مثل : حرق زرع لقصد مجرد إتلافه من دون معرفة صاحبه ، ومن غير تشف فيه كما
حرق نيرون مدينة رومة .
ثانيها
:
أن يكون النفع أو الضر غالبا واضحا تنساق إليه عقول العقلاء والحكماء ، بحيث لا
يقاومه ضده عند التأمل . وهذا أكثر أنواع المصالح والمفاسد المنظور إليها في
التشريع ، مثل : إنقاذ الغريق ، فمع ما فيه من مصلحة للمنقذ إلا أن فيه مضرة للمنقِذ
؛ كشدة التعب ، أو شدة البرد ، أو حدوث مرض ، لكن هذه المضرة لا تعد شيئا في جانب
مصلحة الإنقاذ .
ثالثها
:
أن لا يمكن الاعتياض عن الوصف بوصف آخر في تحصيل الصلاح أو الفساد مثل : شرب الخمر
، فقد اشتمل على ضرر بين ، وهو إفساد العقل ، وإحداث الخصومات ونحوهما ، واشتمل
على نفع بين ، وهو إثارة الشجاعة والسخاء وطرد الهموم ... إلا أنا وجدنا مضاره لا يخْلُفُها
ما يصلحها ، ووجدنا منافعه يخلفها ما يقوم مقامها من الحث على الخير بالمواعظ
الحسنة والاشعار البليغة التي تحفز على الشجاعة وتطرد الهموم([196]).
رابعها
: أن يكون أحد الأمر أو الوصفين من النفع أو الضر ـ مع كونه مساويا لضده ـ معضودا
بمرجح من جنسه ، مثل : تغريم الذي يتلف مالا عمدا قيمة ما أتلفه ، فإن في التغريم
نفعا للذي أُتْلِف ماله ، وضررا للمتْلف ، وهما متساويان ، ولكن النفع قد رجح بما
عضده وقواه من العدل والإنصاف الذي يشهد له أهل العقول والحكماء .
خامسها
: أن يكون أحد الوصفين منضبطا محققا ، والآخر مضطربا ، مثل : الضرر الذي يحصل من
خطبة المسلم على أخيه ومن سومه على سومه([197])
الواقع النهي عنهما في حديث الموطأ عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال : « لا يخطب الرجل
على خطبة أخيه ، ولا يسوم على سومه » وفي لفظ : « لا يبيع الرجل على بيع أخيه ،
ولا يخطب على خطبة أخيه »([198])
متفق عليه .
صورة
السوم على السوم : أن يأخذ رجل شيئا من آخر ليشتريه ، فيقول المالك للمشتري : رده
! لأبيعك خير منه بثمنه أو مثله بأنقص ، أو يقول للمالك : استرده لأشتريه منك
بأكثر من ذلك .
صورة
البيع على البيع : أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار : افسخ ! لأبيعك بأرخص
وأنقص . أو يقول للبائع : أفسخ ، لأشتري منك بأزيد ([199]).
فإن
ما يحدث وما يحصل من ضرر بمجرد الخطبة والتساوم قبل المراكنة والتقارب يعتبر ضررا
مضطربا لا ينضبط ، ولا تجده سائر النفوس ، بخلاف الضرر الواقع بعد المراكنة
واستقرار البيع ، فهو محقق منضبط ، ولذلك لو عمل بظاهر الحديث ، ومنع تقدم خاطب
آخر قبل المراكنة للأول ، ومنع البيع للآخر قبل المراكنة لكان في ذلك إضرار وفساد
للمرأة المخطوبة ، ولصاحب السلعة من هذه كله نعلم أن تشريع جلب المصالح ليس
فيه تحصيل مفسدة ، وأن تشريع درء المفاسد ليس فيه إضاعة مصلحة ، بل التشريع كله
جلب مصالح ؛ لأن طرف المفسدة المغمور في جانب المصلحة الغامرة ، وكذا العكس ، لا
يؤثر في نظام العالم شيئا .
كما نعلم أن المصلحة ليست هي مطلق الملائم ، ولا المفسدة هي
مطلق المنافر والشاق ؛ لأن بين المصلحة والملائم والمفسدة والمنافر عموم وخصوص وجهيّاً
، فقد تجتمعان : المصلحة والملاءمة ، وقد ينفرد كل منهما عن الآخر .
ومن
هنا لا تكون المنافع الموجودة في الخمر مصالح ، وإلا لكان شرب الخمر مباحا أو
واجبا ، ولم يقل بذلك أحد . كما أن المنهيات كلها مشتملة على مفاسد ، ولذلك رتبها
الفقهاء ، فذكروا الفواحش والكبائر واللَّمَم ، فقال تعالى : ﴿ الذين
يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾ ([200]).([201])
والله أعلى وأعلم .
ضوابط المصلحة
هذا وبعد أن عرفنا الضابط الذي به تعرف المصلحة من المفسدة
ناسب أن نذكر باختصار الضوابط والقيود التي ينبغي على المجتهد مراعاتها عند الأخذ
بالمصالح الشرعية واعتبارها .
وذلك لأن المصلحة ليست دليلا شرعيا مستقلا بذاته : كالكتاب ،
والسنة ، والإجماع ، والقياس حتى يصح بناء الأحكام الجزئية عليها وحدها ، وإنما
هي معنى كلي ـ استخلص من مجموع جزئيات الأحكام المأخوذة من أدلتها ومصادرها ـ وهو
القصد إلى مراعاة مصالح العباد في الدنيا والآخرة .
لذا
كان لا بد من ضوابط تقيد المصلحة وتحدد معناها الكلي من ناحية . وارتباطها بالأدلة
التفصيلية للأحكام من ناحية أخرى حتى يتم بذلك التطابق بين الكلي وجزئياته([202]).
وهذه
الضوابط منها العام ، ومنها الخاص :
أما الضوابط العامة
فأهمها ما يأتي :
أولا
: ينبغي أن ينظر المجتهد إلى المصلحة أو المفسدة بميزان الشرع ، وليس بأهواء الناس
ورغباتهم ؛ لأن الناس لو تركوا وأهواءهم لما استطاعوا الوصول إلى المصالح التي
تعود بالنفع العام للأمة ، ولو استطاعوا لما تحققت لهم مصالحهم على الوجه الأكمل .
ثانيا
: أن مصلحة الدين هي أساس المصالح الأخرى ، ومقدمة عليها ، وعلى هذا لو تعارضت مع
غيرها من المصالح وجب المحافطة عليها والتضحية بما سواها من مصالح الدنيا التي
جاءت لها الشريعة ([203]).
ثالثا
: المصالح التي اعتبرها الشارع هي المصالح الغالبة بحكم العادة وهي التي قصد
الشارع جلبها . وكذا المفاسد إذا كانت هي
الغالبة بالنظر إلى المصالح بحكم العـادة كـان
دفعها
هو المقصود شرعا ([204]).
أما ضوابط المصلحة
الخالصة بالمصالح المرسلة – وهي التي لم يقم دليل من الشارع على
اعتبارها أو إلغائها ، وإنما ترك ذلك لاجتهاد المجتهد – فقد أسهب الدكتور محمد
سعيد البوطي في كتابه « ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية » نختصرها فيما يأتي :
1-
أن تكون المصلحة
مندرجة في مقاصد الشريعة ، وذلك بأن تحقق المصالح الضرورية ، والحاجية ،
والتحسينية .
2-
أن لا تعارض نصا من
كتاب أو سنة ، فإن عارضت واحدا منهما لم يصح بناء الحكم عليها ؛ لأنه لا اجتهاد مع
النص . خلافا لمن رأى تقديم المصلحة على النص كالطوفي ، لكن خلافه لا يعتد به ؛
لأنه مبني على أوهام ومزاعم لا ترقى إلى مرتبة الخلاف المعتبر كما قال القائل :
ليست كل خلاف جاء
معتبرا |
○ |
إلا خلاف له حظ من
النظر |
3-
أن لا تعارض المصلحة إجماعا .
4-
أن لا تعارض قياسا
صحيحا ، سواء كانت مصلحة لا شاهد لها في الشرع كالمصالح المرسلة ، أم كانت لها
شاهد في الشرع بأن كانت معتمدة على مناسب معتبر في الشرع كالقياس إذا عاضه قياس
أقوى منه في الاعتبار.
5-
أن لا يترتب على
الأخذ بالمصلحة ، وبناء الحكم عليها تفويت مصلحة أخرى أهم منها ، أو مساوية لها ([205]).
أقسام
المصالح
تنقسم
المصالح باعتبارات متعددة :
1-
فباعتبار آثارها في
قوام أمر الأمة - كما صرح ابن عاشور - أو باعتبار محافظة الشارع عليها كما صرح
اليوبي إلى ثلاثة أقسام : ضرورية ، وحاجية ، وتحسينية .
2-
وباعتبار تعلقها
بعموم الأمة أو جماعتها ، أو أفرادها تنقسم إلى مصلحة عامة كلية ، وجزئية تتعلق
بالأغلب ، وجزئية تتعلق بشخص معين .
3-
وباعتبار تحقق الحاجة
إليها في قوام أمر الأمة أو الأفراد ، أو باعتبار تحقق الحاجة إلى جلبها ودفع
الفساد عن أن يحيق بها تنقسم إلى قطعية ، وظنية ، ووهمية .
4-
وباعتبار قصد الشارع
لها أصالة أو تبعا تنقسم إلى : أصلية ، وتبعية .
5-
وباعتبار تعلقها
بالآخرة أو الدنيا تنقسم إلى : دنيوية ، وأخروية .
6-
وباعتبار شهادة
الشارع لها بالاعتبار أو الإلغاء ، تنقسم إلى : مصالح معتبرة ، وملغاة ، ومرسلة .
إليك
التفصيل والبيان :
أولا : أقسام
المصالح - أو المقاصد - باعتبار آثارها في قوام الأمر .
تنقسم المصالح بهذا الاعتبار إلى ثلاثة
أقسام :
الأول
: المصالح الضرورية .
تعريفها
: سبق أن عرفنا ( المصالح ) لغة ، بقي تعريف الضرورية . والضرورية في اللغة من
الضرورة ، والضرورة في اللغة : الحاجة الشديدة ، يقال : رجل ذو ضرورة أي ذو حاجة
شديدة . والضرورة اسم من الاضطرار ، وهي المشقة . وعلى هذا تكون الضرورة في اللغة
: هي الأمر المحتاج إليه بحيث أصبح صاحبه مضطرا إلى فعله ([206]).
وفي
اصطلاح العلماء عرفت المصالح الضرورية بتعاريف متقاربة ، منها ما يأتي :
1-
عرفها الشاطبي ،
بأنها : « ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح
الدنيا على استقامه ، بل على فساد وتهارج ، وفوت حياة ، وفي الأخرى : فوت النجاة
والنعيم والرجوع بالخسران المبين » ([207]).
2-
عرفها المحلي بأنها :
« ما تصل الحاجة إليه إلى حد الضرورة »([208]).
3-
وعرفها ابن عاشور
بأنها : « التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها ، بحيث لا
يستقيم النظام باختلالها ، فإذا انخرمت تؤول حالة الأمة إلى فساد وتلاش » ، أي
تصير أحوال الأمة شبيهة بأحوال الأنعام ، بحيث لا تكون على الحالة التي أرادها
الشارع منها . أو يفضي بعض ذلك الاختلال إلى تسلط بعض الأمة على بعض ، أو بتسلط
العدو عليها فتفنى ([209]).
أقسامها :
تنقسم
المصالح الضرورية إلى خمسة أقسام ـ والبعض يجعل هذه الأقسام أمثلة للمصالح
الضرورية ـ هي حفظ الدين ، وحفظ النفوس ، وحفظ العقول ، وحفظ الأموال ، وحفظ النسل
. وزاد بعضهم ـ كالطوفي ـ سادسا هو حفظ الأعراض ([210]).
وحكم هذه الأصول الخمسة واجب ، وتفويت هذه الأصول أو واحد
منها والزجر
عنها
حرام ، بل يستحيل أن لا تشتمل على ذلك ملة من الملل ، ولا شريعة من الشرائع أريد
بها إصلاح الخلق كما صرح الغزالي ([211]).
كما أن علم هذه الضروريات الخمس صار مقطوعا به كما صرح الشاطبي ([212]).
وقد
ثبت ذلك بأدلة من الاستقراء ، والكتاب ، والسنة :
أما الاستقراء :
فباستقراء الأدلة الشرعية وجدناها جميعها ترجع إلى حفظ هذه المقاصد أو الضرورية
الخمس .
يقول الشاطبي : " قد اتفقت الأمة ـ بل سائر الملل ـ
على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس ... وعلمها عند الأمة كالضروري
، ولم يثبت بذلك بدليل معين ... بل قد علمت ملاءمتها للشريعة بمجموعة أدلة لا
تنحصر في باب واحد"([213]).
فكما
لا يتعين في التواتر المعنوي أن يكون المفيد للعلم خبرا واحدا من الأخبار دون
الباقي ، فكذلك هنا لا يتعين أحد هذه الأدلة لإفادة العلم بهذه الضروريات ؛
لاستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على انفراده ، وإن أفادت العلم بمجموعها ([214]).
وأما الكتاب :
فمنه آيات دلت على مراعاة هذه الضروريات الخمس مجتمعة ، ومنه ما هو خاص بكل واحد
منها .
فمن الآيات الشاملة
لهذه الأقسام الخمسة :
1-
قوله تعالى : ﴿ قل
تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا
أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا
تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . ولا تقربوا
مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف
نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلك وصاكم به
لعلكم تذكرون
﴾ ([215]).
فقوله
تعالى : ﴿ ألا تشركوا به شيئا
﴾ دل على حفظ الدين . وقوله : ﴿ ولا
تقتلوا أولادكم
﴾ ، وقوله : ﴿ ولا
تقتلوا النفس
﴾ دل على حفظ النفس . وقوله :
﴿ ولا
تقربوا الفواحش
﴾ دل على حفظ النسب والنسل. وقوله : ﴿ ولا تقربوا مال اليتيم
﴾ دل على حفظ المال . وأما حفظ العقل فمطلوب أيضا بالتبع ؛ لأن التكليف بهذه
الأمور لا يكون إلا لمن سلم عقله ، ولا يقوم بها فاسد العقل ، كما أن في قوله
تعالى : ﴿ لعلكم
تعقلون
﴾ ما يشير إلى ذلك ([216]).
2-
قوله تعالى : ﴿ يا
أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا
يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن
﴾ ([217]).
فهذه
الآية دلت على حفظ الدين والمال والنسل والنفس . والخطاب فيها وإن كان للنساء إلا
أنه خطاب لكل الأمة ؛ إذ لا خصوصية للنساء المؤمنات في ذلك ، فقد كان ﷺ يأخذ
البيعة عل الرجال بمثل ما نزل في النساء المؤمنات كما جاء في صحيح البخاري ([218]).
وأما الآيات الخاصة
بكل واحد فمنها ما يأتي :
1-
قوله تعالى : ﴿ وقاتلوهم
حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ﴾ ([219]).
فهذه الآية قد دلت على حفظ الدين .
2-
وقوله تعالى : ﴿ يا
أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى ﴾([220])
، وقوله تعالى : ﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون ﴾
([221]).
فقد دلت الآية على حفظ النفس .
3-
وقوله تعالى : ﴿ والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ ([222])،
فهذه جاءت لحفظ المال .
4-
وقوله تعالى : ﴿ إنما
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون
﴾([223])
فقد جاءت لحفظ العقل .
5-
وقوله تعالى : ﴿ والزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾([224]).
فقد جاءت الآية لحفظ النسل والنسب والعرض .
إلى
غير ذلك من الآيات الدالة على حفظ هذه الضروريات الخمس إجمالا وتفصيلا .
أما السنة
: فأحاديث كثيرة ، منها : العام الذي دل على وجوب المحافظة على هذه الضروريات
مجتمعة ، ومنها الخاص .
أما العام فمنها :
1-
ما
رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟
قال
: « أن تجعل لله ندا وهو خلقك » ، قلت : ثم أي ؟ قال : « أن تقتل ولدك مخافة أن
يطعم معك » قلت : ثم أي ؟ قال : « أن تزاني حليلة جارك »([225]).
فهذا
الحديث قد دل على وجوب المحافظة على الدين والنفس والنسب .
2-
قوله ﷺ : « لا يحل دم
امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق
للجماعة » ([226]).
فهذا
الحديث دل على وجوب المحافظة على النسب ، والنسل ، والنفس ، والدين .
3-
أيضا قوله ﷺ : « كل
المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه »([227])
فقد دل على وجوب حفظ النفس والمال والعرض .
4-
أيضا قوله ﷺ : « لا
يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، ولا يسرق
السارق حين يسرق وهو مؤمن »([228])
فدل هذا على وجوب حفظ
النسل والعرض والعقل والمال .
ومن
الخاص :
قوله ﷺ : « كل مسكر خمر وكل مسكر حرام » وفي لفظ : «
كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام » ([229]).
وقوله ﷺ : « ما أسكر كثيره فقليله حرام »([230]).
فهذا دل على وجوب حفظ العقل .
وقوله
ﷺ : « لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه »([231])
، فقد دل على وجوب حفظ المال . إلى غير ذلك من الأحاديث التي دلت على وجوب حفظ هذه
الضروريات مجتمعة أو منفصلة .
وحفظ
هذه الضروريات يكون بأمرين :
أحدهما
: ما يقيم أصل وجودها ويثبت أركانها ، وهو ما يسمى بجانب الوجود ، أو التشريع
الإيجابي ، وهو الأحكام التي شرعها الله تعالى على لسان رسوله ﷺ ، وتضمنت حفظ هذه المقاصد الخمسة من جانب الوجود :
كالإيمان بالله تعالى وبوحدانيته ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم
رمضان ، وحج البيت ، ونحو ذلك من كل ما يثبت قواعد الإسلام ويقيم أركانه من أصول
العبادات .
وثانيهما
: ما يدفع عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها ، وذلك بدرء الفساد الواقع أو
المتوقع ، وهو ما يسمى بجانب العدم أو التشريع السلبي : وهي الأحكام التي شرعها
الله تعالى لدرء ما يطرأ على هذه المقاصد الضرورية من خلل سواء أكان واقعا بالفعل
أو متوقعا ؛ كمشروعية قتل المرتدين وقتالهم حفظا للدين ، والقصاص من القاتل حفظا
للنفس ، وعقوبة الحد على الزاني ، والسارق ، والشارب ؛ حفظا للنسل ، والمال والعقل
من جانب العدم ([232]).
هذا
وسنفصل الكلام في وسائل حفظ هذه الضروريات من خلال الجانبين في كل واحد على حدة ،
فنقول :
أولا : حفظ
الدين .
مما
لا شك فيه أن حفظ الدين أصل للمقاصد والمصالح كلها ، فإذا ذهب الدين فسدت الدنيا
بأسرها ، وضاعت المقاصد كلها . فالمحافظة على الدين يجعل الإنسان محجما عن الاعتداء
على المقاصد الأخرى ، وما عمَّ القتل وهتك العرض ونهب الأموال في البلاد الكافرة
إلا بسبب عدم الدين . وعليه فالكلام عن حفظ الدين يكون من جانبين :
أ- من جانب الوجود :
وهذا
يتناول العمل بالدين ، والحكم به ، والدعوة إليه ، والجهاد في سبيله .
1-
العمل بالدين .
أما
العمل به : فمما لا شك فيه أن هذا الدين الحنيف ما شرعه الله تعالى إلا ليُعمل به
، سواء أكان عملا باطنيا قلبيا وهو الاعتقاد أم كان عملا ظاهريا بسائر الجوارح
المعروفة التي تتحقق بها الأعمال الظاهرة .
فالعمل
بالدين أمر حتمي وجوبي ، فمنه ما هو واجب عيني على كل مكلف : كالصلاة والزكاة
والصوم ونحوها من فرائض الإسلام العينية ، ومنه ما هو واجب كفائي إذا قام به البعض
سقط عن الباقين : كصلاة الجنازة ، ورد السلام ، ونحوهما ([233]).
والعمل
بالدين له حد أدنى لا يجوز لأحد تركه ، وهو : فعل الواجبات ، وترك المحرمات . وحد
أعلى : وهو فعل المندوبات ، وترك المكروهات ، ففي ذلك الثواب العظيم والأجر الجزيل
.
ولكي
يكون العمل بالدين مثمرا مؤثرا في حياة الناس لا بد وأن يكون على وفق منهج الله
تعالى ، فإن خالف العامل منهج الله تعالى ، فإنه لا يكون عاملا بالدين على وجه
الحقيقة .
ومن
هنا ندرك الفرق بين الإسلام والمسلمين : فالإسلام لا يكون إلا حقا ، بينما أعمال
المسلمين قد تكون حقا ، وقد تكون باطلا ، قد تكون صوابا ، وقد تكون خطأ . فالدين
حجة على الجميع ، بينما أعمال المسلمين ليست حجة على الدين ، وبذلك ندرك كذب أولئك
الذين يزعمون أن أعمال بعض المسلمين اليوم هي الإسلام ﴿ كبرت كلمة تخرج
من أفواهمم إن يقولون إلا كذبا ﴾([234])
.
2-
الحكم بالدين .
إن
الحكم بالدين ضرورة من ضرورات حفظه ، فالحاكم به يحفظ الدين في خاصة نفسه ؛ لأن الله عز وجل وصف من لم يحكم بما أنزل
الله بضد الإيمان وهو الكفر ، فقال : ﴿ ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾([235])
.
كما
يحفظ الدين في مجتمعه ، وذلك بإظهار أحكام الإسلام وشعائره وإقامة حدوده ، وجعله
مهتما على الحياة كلها ، وذلك يحقق مصالح العباد ويَدرأ عنهم المفاسد.
كما
أن الحكم بالدين يغلق الباب في وجه أولئك المغرضين أهل المذاهب الهدامة والأفكار
الضالة ، والأهواء المنحرفة حتى لا يتمكنوا من نشر أفكارهم المسمومة ([236]).
3-
من وسائل الدين حفظ الدين أيضا ( الدعوة إليه ) :
الدعوة
إلى الدين الإسلامي الحنيف وظيفة الأنبياء والمرسلين – عليهم السلام – ومن أجلها
تحملوا المتاعب والصعاب ، وصبروا حتى أظهر الله أمرهم ، وأعلى شأنهم والدعوة إلى
دين الله تكون بتعليم الجاهل ، فهناك من لم يسمع بهذا الدين ، فالدعوة تبين له
حقيقة هذا الدين وإظهار حقيقته ليقبل الناس عليه ويؤمنون به .
كذلك
تكون الدعوة لتحقيق شمول هذا الدين وعمومه في الزمان والمكان والأشخاص ، قال تعالى
: ﴿ وما
أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ﴾([237]).
كما
تكون الدعوة لتفويت الفرصة على أعداء الإسلام الذين ينشرون مذاهبهم الباطلة
وأفكارهم الهدامة ، وذلك لدحض الباطل وأهله حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة
الذين كفروا السفلى . كل هذا في ظل أن تكون الدعوة إلى دين الله تعالى بالحكمة
والموعظة الحسنة ، يقول تعالى : ﴿ ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ ([238]).
4-
من وسائل حفظ الدين أيضا ( الجهاد في سبيله ) :
مما
لا شك فيه أن الجهاد في سبيل الله من أعظم وسائل حفظ الدين ؛ وذلك لأن الدعوة إلى
الدين لن تقابل بالرضا والقبول ، بل ستقابل من البعض بالرفض والإنكار والجحود ، لهذا كان لا بد من جهاد هؤلاء حتى يتمكن
المسلمون من القيام بشعائر دينهم ، والحكم بما أنزل الله وعدم إظهار
الأحكام والقوانين المنافية للإسلام ، وإظهار صورة هذا الدين الحسنة ، وترغيب
الناس فيه حتى ينتشر ويكثر اتباعه([239]).
ب- حفظ الدين من
جانب العدم :
فلا
شك أن المحافظة على الدين من جانب العدم تكون برد وإبطال كل ما يخالف الدين من
الأقوال والأعمال والأفعال ، وهذه الوظيفة الجهادية تعتبر من أهم وسائل حفظ الدين ؛
لأنه إذا تركت المعتقدات الفاسدة ، والأقوال الباطلة ، والمذاهب الهدامة تتسرب إلى
عقول المسلمين دون رد ولا إنكار ، فسوف تؤدي إلى ضياع هذا الدين لا محالة ، لذا
فقد وقف العلماء قديما وحديثا في وجه أصحاب تلك المذاهب الهدامة والأفكار المنحرفة
، فالعلماء هم حراس الشريعة وحماتها الأمناء ، والعلماء يحتاجون إلى معونة ومساعدة
الحكام وعليه فمسئولية الحكام في تنفيذ أحكام الله تعالى في أهل الهواء والخارجين
عن الدين
– حسيمة – وقد قاتل أبو بكر رضي الله عنه
المرتدين تنفيذا لقوله ﷺ : « من بدل دينه فاقتلوا ! »([240])،
كما قاتل مانعي الزكاة ؛ تنفيذا لقوله ﷺ : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا
إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا
فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله » ([241]).
ثانيا :
مصلحة أو مقصد « حفظ النفس » .
لقد
عنيت الشريعة الإسلامية بالنفس البشرية عناية فائقة فشرعت من الأحكام ما يجلب لها
النفع ويدفع عنها الضر ، وذلك مبالغة في حفظها وصيانتها ؛ لأنها بتعرضها للضياع
سيُفقد المكلف الذي يَعْبُد الله تعالى .
والنفس
التي حافظ الشارع عليها هي النفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان . أما غير
ذلك من الأنفس المحاربة فلم تهتم الشريعة بالمحافظة عليها ؛ لأن محاربتها للإسلام
أعظم في نظر الشريعة من إزهاق نفسه . كذلك أجازت الشريعة إزهاق النفس بالقصاص أو
الرجم ، مع أنها معصومة بالإسلام ؛ لأن مصلحة حفظ النفس هنا قد عورضت بمصلحة أعظم
منها ، فكان إزهاقها للعناية بأنفس كثيرين غيره ([242]).
وقد
وضعت الشريعة الإسلامية الوسائل الكفيلة بحفظ النفس من التعدي من جانبي الوجود
والعدم :
أ- من جانب الوجود :
وهو
الأحكام التي شرعت لمراعاة حفظ النفس من جانب الوجود ، وذلك بجلب وتحصيل كل ما
يؤدي إلى حفظ النفس ؛ لذلك قرر سبحانه وتعالى مبدأ حق المحافظة على النفس حتى عل
الشخص نفسه ، فقال تعالى : ﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة
﴾([243]).
ومن أجل هذا فقد أحل الطيبات في أصول العادات من مأكل ومشرب وملبس وكل ما يقيم
البنية ويحفظ البدن . فقد أباحه الشارع لتحقيق المحافظة على الأنفس ، بل قد أوجب
على الإنسان تناول ما هو ضروري ولو كان في الأصل محرما لحفظ حياته من مأكل ومشرب
بحيث إذا فعل كان مطيعا ، وإن لم يفعل كان آثما : كأكل الميتة للمضطر ، وشرب الخمر
لإزالة الغصة ([244]).
ب- من جانب العدم :
وهو
الأحكام التي شرعت لمراعاة حفظ النفوس من جانب العدم ، وذلك بدرء ودفع كل ما يخل بحفظ النفس .
ومن الأحكام والوسائل التي شرعت لحفظ النفس من جانب العدم ما
يأتي
:
1-
تحريم الاعتداء عليها
: حيث توعد الله تعالى قاتل النفس بالعقاب العظيم والعذاب الأليم ، فقال : ﴿ ومن
يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا
أليما
﴾([245])
، وقال تعالى : ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق
﴾([246])
، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تحريم قتل النفس .
2-
سد الذرائع
: كما يكون حفظ النفس بتحريم الاعتداء عليها يكون أيضا بسد الذرائع المفضية إلى
جلب المفاسد كالقتل ونحوه ، لذا فإن الشريعة الإسلامية حرصت على سد الذرائع
المفضية إلى جلب المفاسد وتفويت المصالح . فقال ﷺ : « سِبَاب المسلم فسوق وقتاله
كفر »([247])؛
لأن سباب المسلم ذريعة إلى القتال ، وأن يقتل المسلم أخاه .
3-
القصاص
: الشارع أوجب القصاص على القاتل بغير حق زجرا له ولغيره من كل من تسول له نفسه قتل
أخيه بغير حق فقال تعالى : ﴿ وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين
بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسن والجروح قصاص
﴾([248])
.
4-
من وسائل حفظ النفس :
تحريم قتل النفس إلا بحق قامت البينة عليه([249])،
فالشريعة الإسلامية حرمت قتل النفس إلا بحق قامت بالبينة عليه ، وذلك إما بإقرار
من صاحب الجريمة ، أو بشهادة لشهود العدول حسب الجريمة ، وتكون بأربعة شهود في قتل
النفس رجما في حد الزنا واثنين في غيرهما.
5-
ضمان النفس
: هذا بالإضافة إلى أن الشريعة أوجبت ضمان النفس في حالة عدم القصاص ، فأوجبت دية
العمد على القاتل وحده دون عاقلته ، وأنها حالَّة ومغلظة ما دام القتل عمدا ،
بخلاف القتل الخطأ وشبه العمد فهي على عاقلته .
6-
العفو عن القصاص
: من وسائل حفظ النفس أجازت الشريعة العفو عن القصاص إذا أراد ذلك ولي المقتول ([250]).
7-
( إباحة المحظورات في حالة الضرورة
: من وسائل حفظ النفس أباحت الشريعة المحظورات في حالة الضرورة إنقاذا للأنفس من
الهلاك ، إنما شرع ذلك من أجل المحافظة على النفس )([251]).
ثالثا : مقصد
أو مصلحة « حفظ العقل » :
مما
لا شك فيه أن العقل منة كبرى ونعمة عظمى أنعم الله بها على الإنسان وميزه به على
غيره من سائر الحيوانات ، فإذا فقد الإنسان عقله صار كالبهيمة .
ومن
أجل المحافظة على نعمة العقل شرع الشارع ما يحفظ العقل من جانبي الوجود والعدم :
أ- أما الوجود :
فلقد أعطى الشارع العقل أهمية بالغة في كونه وسيلة إلى
التأمل في آيات الله تعالى ، وأخذ العبرة منها فقال تعالى : ﴿ إن في
ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾([252])،
كما أوجب على الإنسان كل ما هو ضروري لحفظ نفسه وعقله من الطعام والشراب ؛ لأن ما
يحفظ النفس بطريق مباشر يحفظ العقل بطريق
غير مباشر . هذا بالإضافة إلى أن الشارع جعل
العقل مناط التكليف ، فغير العاقل ليس بمكلف ، قال ﷺ : « رفع القلم عن
ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق »([253])
.
ب- من جانب العدم :
فقد
حرم الشارع كل ما يفسد العقل ويدخل الخلل عليه . ومفسدات العقل على قسمين : 1-
حسية . 2- معنوية .
1-
المفسدات الحسية :
وهي
التي تؤدي إلى الإخلال بالعقل بحيث يصبح الإنسان كالمجنون الذي لا يعرف صديقه من
عدوه فيختل كلامه المنظوم ، ويذيع سره المكتوم .
من
هذه المفسدات : الخمور والمخدرات ونحوها .
فقال تعالى : ﴿ إنما الخمر
والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان
﴾([254]).
وقال
ﷺ : « كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام »([255])
.
وقال
ﷺ : « ما أسكر كثيره فقليله حرام »([256])
.
وهذا
كله يؤكد أنها وغيرها من المسكرات من أعظم أسباب التعدي على الضروريات الخمس التي
جاء الإسلام بحفظها ، فكم حصل بسببها من سفك الدماء ، وانتهاك الأعراض ، وإتلاف
الأموال وإفساد العقول وتفويت لمصالح الدين ([257]).
2-
المفسدات المعنوية :
وهي
ما يطرأ على العقول من تصورات فاسدة في الدين أو الاجتماع أو السياسة أو غيرها من
أنشطة الحياة فهذه مفسدة للعقول من حيث كون الإنسان عطل عقله عن التفكير السليم الذ
يوافق الشرع ، فعقله من هذه الحيثية كأنه فاسد لا يفكر ، لذلك نعى الله تعالى في
كتابه على الكفار حيث عطلوا عقولهم عن التفكير في آيات الله القرآنية ، وآياته
الكونية ، فلم يستفيدوا منها في الوصول إلى الحقيقة ، فقال تعالى : ﴿ أم
تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا
﴾([258]).
هذا بالإضافة إلى أن الشارع أوجب الحد على شارب الخمر عامدا
عالما بأنها محرمة ، وهو ثمانون جلدة على رأي الجمهور أو أربعون على رأي الشافعي
ورواية عن أحمد .
رابعا : مقصد
ومصلحة « حفظ النسل » :
والكلام
في هذا يكون من ناحيتين : الأولى : هل هو النسل أو النسب أو البضع ؟ والثانية :
وسائل حفظه من جانبي الوجود والعدم .
أما الناحية الأولى
: فقد اختلف العلماء في مسمى هذا المقصد :
1-
فمنهم من أسماه النسل
: كالغزالي في المستصفى والآمدي في الإحكام ، وابن الحاجب ، والعضد ، والشاطبي ،
والزركشي ، والفتوحي ، والشوكاني .
2-
ومنهم من ذكر النسب :
كالرازي ، والبيضاوي ، وابن قدامة ، والقرافي ، وصدر الشريعة ، والطوفي ، والأصفهاني ، وابن السبكي ، وابن الهمام ، والمحلي ،
وغيرهم .
3-
ومنهم
من ذكر البُضع أو الفرج : كإمام الحرمين الجويني ، والغزالي في شفاء الغليل
، وشيخ الإسلام ابن تيمية([259]).
ولقد
رأى الطاهر بن عاشور أن حفظ الأنساب إن أريد به حفظ النسل من التعطيل والقطع فعده
من الضروريات ظاهر واضح ، وهو منها حينئذ ؛ لأن النسل هو خِلْفَة أفراد النوع ،
فلو تعطل فإن تعطيله يؤول إلى اضمحلال النوع وانتقاصه .
وإن
أريد بحفظ الأنساب حفظ انتساب النسل إلى أصله ، وهو الذي لأجله شرعت قواعد الأنكحة
وحرم الزنا ، وفرض الحد ، فقد يقال : إن عدّه من الضروريات غير واضح ؛ إذ ليس
بالأمة ضرورة إلى معرفة زين – مثلا – هو ابن عمرو ، لكن في هذا مضرة لا تبلغ مبلغ
الضرورة . وعليه فهو يرى أن النسل من قبيل الضروري ، والنسب من الحاجي .
وهناك
من رأى أن حفظ النسل أعم من حفظ النسب ، وحفظ النسب أخص([260])،
ولكن حفظ النسل معرض للخطر إذا ضيع حفظ النسب ، ولما كان حفظ النسب في دين الله لا
طريق له إلا النكاح المشروع ؛ أطلق كل منهما على الآخر ، فحفظ النسل في الإسلام هو
حفظ النسب وحفظ النسب هو حفظ النسل . وهذا يؤيده اتفاق كثير من كتب الأصول في
التمثيل لحفظهما بحد الزنا وتحريمه . أما من ذكر البُضع فيمكن أن يفهم من كلامه
اعتبار الجميع شيئا واحدا لأن التزاحم على البُضع يؤدي إلى اختلاط الأنساب وتلطيخ
الفراش وانقطاع التعهد عن الأولاد لعدم معرفة أبيهم ([261]).
والحقيقة
أن سبب الخلاف - فيما أرى – يرجع إلى ترابط هذه الأمور الثلاثة من حيث الواقع من
جهة ، ومن حيث اهتمام الشارع بها من جهة أخرى ؛ لأن البُضع في اللغة ( الفرج ) وهو
محل الحرث والنسل ، والنسل المطلوب شرعا هو الناشيء عن نسب صحيح ، فلتلازم هذه
الأمور الثلاثة تساهل العلماء في إطلاق بعضها على بعض .
وإن
أردنا الترتيب فيما بينها :
فالنسل
ضروري ؛ لأنه يترتب على فقده انقطاع الوجود الإنساني وإنهائه ، وخراب العالم
وفساده . وأما النسب فهو من مكملات النسل ؛ لأنه لا يتم مقصود النسل إلا بالنسب .
وأما حفظ الفرج والبُضع فهو مكمل لحفظ النسب ، وحفظ النسب مكمل لحفظ النسل فيكون
حفظ لبُضع مُكمِّلا لحفظ النسل ؛ لأن المكمل للمكمل مكمل ، كما صرح الشاطبي([262]).
أما الناحية الثانية
: وهي وسائل حفظ النسل :
فقد
حافظ الشارع على النسل ودعا إلى تكثيره ومنع كل ما من شأنه أن يقف في طريق إيجاده
وسلامته ، وذلك من جانبي الوجود والعدم :
أولا
: حفظ النسل من الوجود :
أما جانب الوجود : فقد حث الشارع على ما يحصل به استمراره
وبقاؤه وتكثيره
فشرع النكاح وحث عليه ورغب فيه ، باعتباره الطريق الشرعي للنسل المطلوب شرعا ،
فقال تعالى : ﴿
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع . فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو
ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ﴾ ([263])
، هذه الآية دلت على مشروعية النكاح والتعدد فيه ، ومن لازم ذلك زيادة النسل
وكثرته لا محالة . كما حث الإسلام على الزواج
بالولود التي عرف عنها كثرة الولد بأن لم تكن بكرا ، أو البكر المعلوم عنها ذلك من حال أهلها ، أو الشابة ؛ لأنها مظنة
الولادة ، بخلاف العجوز التي انقطع نسلها
، فقال ﷺ : « تزوجوا الودود الولود ،
فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة »([264])،
وقال ﷺ :
« عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها ، وأنتق أرحاما » ([265])
أي أكثر أولادا ([266]).
ثانيا : حفظ النسل
من جانب العدم :
وذلك
بمنع ما يقطعه كلية أو يقلله أو يَعْدِمه بعد وجوده :
1-
لذلك منع الشارع ترك النكاح والإعراض عنه .
وذلك
بمنع التبتل ، وهو ترك النكاح من أجل الانقطاع إلى الله تعالى والانشغال بالعبادة ، ولذلك رد النبي ﷺ على عثمان بن مظعون
التبتل ، قال سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه : « ... ولو أذن له لاختصينا »([267])
.
كما
نهى ﷺ في أحاديث أخرى عن الاختصاء – وهو قطع الأنثيين أو شقهما - فقد روي عن
إسماعيل بن قيس قال : قال عبد الله بن مسعود : " كنا نغزو مع رسول الله ﷺ
وليس لنا شيء ، فقلنا : ألا نختصي ، فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة
بالثوب "([268]).
والحكمة من هذا النهي هي إرادة كثرة النسل للمسلمين([269]).
وكذلك
قوله ﷺ للثلاثة وفيهم من قال : إني أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، قال : « ...
والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء
، فمن رغب عن سنتي فليس مني » ([270]).
هذا
بالإضافة إلى إنكار السلف الصالح – رضي الله عنهم – ترك النكاح بالكلية ، قال
طاووس لرجل : " لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر : ما يمنعك من النكاح إلا
عجُز أو فجور " ([271]).
كما
قرر العلماء – رحمهم الله – أن النكاح أفضل من التخلي لنوافل العبادة لكون مصالح
عامة ، ومصالح نوافل العبادة خاصة ([272]).
واستدلوا
على أن النكاح أفضل من التخلي عنه للعبادة :
بأن
الله عز وجل اختار النكاح لأنبيائه ورسله ، فقال : ﴿ ولقد أرسلنا رسلا
من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية ﴾ ([273])
، وتزوج النبي ﷺ وبالغ في العدد ، وفعل ذلك الصحابة ، ولا يشتغل النبي ﷺ وأصحابه
إلا بالأفضل .
كل
هذا يؤكد أن النكاح أفضل من التخلي عنه للعبادة ، كما يؤكد تحذير الشارع من ترك
النسل أو تقليله لغير عذر شرعي ([274]).
أما
إذا ترك النكاح لعدم القدرة البدنية عليه لكونه لم يخلق له شهوة كالعنين ، أو كانت
له شهوة ، قد ذهبت لمرض أو كبر ؛ فقيل : يستحب له النكاح ؛ لعموم الأدلة سابقة ،
ولأنه لا رهبانية في الإسلام .
وقيل : يفضل له التخلي عنه ؛ لأنه لا يُحَصِّل مصالح النكاح
، ولا يُحصِّن زوجته ، بل يلحق الضرر بها .
وهذا
هو الراجح ، إلا إذا علمت الزوجة سلفا بذلك ورضيت به .
أما
إذا كان الترك لوجود عجز مالي ، فقد أرشد النبي ﷺ إلى معالجة ذلك بالصيام حيث قال
: « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج
ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء »([275])
أي كاسر للشهوة .
وأما
إذا كان تركه بسبب سلوك الإنسان طرقا أخرى غير مشروعة : كالزنا واللواط ونحوهما ؛
فهذا لا يجوز ؛ لأنه من أعظم الجرائم ، لما فيها من هتك الأعراض واختلاط الأنساب .
2-
كذلك منع الشارع ما يمنع الحمل كلية لدي المرأة ، أو يضعف الشهوة ، أو يقطعها
بالكلية لدى الرجل والمرأة .
لذلك
قرر العلماء تحريم كل ما يقطع الحمل باستمرار كاستئصال الرحم من غير ضرورة شرعية ،
أو بتناول دواء يجعل المرأة لا تحمل بعده أبدا ، أو نحو ذلك ([276]).
لذلك حرموا تحديد النسل الذي يعتبر مؤامرة خطيرة من الغرب على الأمة الإسلامية –
دينية وسياسية واجتماعية .
أما
إذا كان ما يمنع الحمل أو يقطع الشهوة مؤقتا ، وفي حالات خاصة وظروف معينة ، بحيث
إذا رغب الزوجان أو أحدهما في ترك الحمل مؤقتا – وهو ما يسمى تنظيم النسل عن طريق
العزل ونحوه – فإنه وإن أدى إلى تقليل النسل إلا أن جمهور الفقهاء أجازوه مع
الكراهة ؛ لأنه لا يناقض قصد الشارع ، ولأن الصحابة كانوا يعزلون على عهد النبي ﷺ
ولم ينههم عنه كما رواه جابر رضي الله عنه ، فقال : " كنا نعزل في عهد رسول
الله ﷺ فبلغ ذلك رسول الله فلم ينهنا ... "([277]).
غير
أن هناك من ذهب إلى منعه ، وأنه لا يحل العزل عن حرة ولا عن أمة ، وهو قول بعض
أصحاب أحمد ، وابن حزم .
واستدلوا
بما رواه مسلم في « صحيحه »([278])
: أن أناسا سألوا رسول الله ﷺ عن العزل ، فقال ﷺ : « ذلك الوأد الخفي » .
والراجح
: أن العزل أو غيره مما ينظم النسل قد تستدعيه ظروف معينة ومصلحة راجحة على مصلحة
كثرة النسل : كالخوف على الأم من الهلاك بالحمل ، أو الخوف على الولد من الرق ، أو
الخوف على تأثر الرضيع من حمل أمه بأن تكون مريضة بالإيدز مثلا ، فذلك جائز ولا
كراهة فيه بعد مشورة طيب مسلم عادل . وهذا لا يتنافى مع مقصد الشرع من كثرة النسل
؛ لأنها حالات خاصة لا عموم لها ، ولأن ذلك يحصل لتحقيق مصالح أخرى راجحة ودرء المفاسد
مقدم على جلب المصالح .
3-
كذا من أجل المحافظة على النسل من جهة العدم : منع الشارع الإجهاض .
وهو
إسقاط الحمل من بطن أمه ، ومنع ذلك من أجل المحافظة على الجنين الذي هو الطريق إلى
إيجاد النسل وامتداده ، ولو لم يراع الشارع حال الأجنة في بطون أمهاتها للزم من
ذلك فساد النسل وضياعه ، لذلك حكم النبي ﷺ على المرأة التي رمت الأخرى بحجر فطرحت
جنينها بغرة عبد أو أمة([279])
، بل ألزم الجاني الغرة حتى لو كانت الجانية أم الجنين ، كل هذا من أجل المحافظة
على النسل التي يعتبر مقصدا ضروريا من مقاصد الشريعة ([280]).
ومن
العجيب أن أحد كتاب الغرب تنبه لذلك فذكر ثلاثة أضرار للإجهاض ، وهي :
أ-
هلاك عدد غير معلوم من أفراد البشرية قبل
أن يخرجوا إلى نور الحياة .
ب- ذهاب عدد غير يسير من الأمهات ضحية الموت أثناء
عملية الإجهاض .
ج- حدوث مؤثرات مرضية للمرأة لا يستهان بعددها تؤدي
في النهاية إلى عدم الإنجاب مستقبلا .
خامسا : مقصد
ومصلحة « حفظ المال ».
لا
شك أن المال عصب الحياة ، ولا تستقيم مصالح الدنيا إلا به ، فهو من الضروريات التي
حافظ الشارع عليها ، وليس المقصود من المال النقدين ، كما قد يتبادر إلى الأذهان ،
وإنما المقصود منه : كل ما يتموله الإنسان من متاع أو نقد أو غيره لذا كانت الحاجة
ماسة إليه في حق الفرد ، والأمة .
أما
بيان حاجة الفرد إليه : فمن جهة أن حفظ حياة الفرد متوقفة على الأكل والشرب ،
واللباس الواقي من القر والحر ، وكل هذا يتطلب مالا . فإذا عدم المال تصور لحوق
الضرر بالفرد لا محالة ، لهذا فهو محتاج إليه لقيام مصالحه الدنيوية والدينية .
وأما
بيان حاجة الأمة إليه فمن وجوه :
1-
أن الأمة هي مجموعة من الأفراد ، فإذا دخل النقص على كل فرد دخل على جميع الأمة ؛
لأن حفظ الجزء لازم لحفظ الكل ، فإذا انتشر الفقر في أمة ولم تستطع سد حاجة المحتاجين
من أبنائها فإنها تتحطم وتفقد أهم مقوماتها .
2-
أن الأمة مطالبة بمجموعها بالدفاع عن دين الله والجهاد في سبيله ، ولا بد لذلك من
إعداد العدة للدفاع ، ولا يتحقق ذلك إلا بالمال ، قال تعالى : ﴿ وأعِدّوا
لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم
﴾([281])
، فإذا لم تملك الأمة المال فستكون فريسة سهلة لأعدائها ، وفي ذلك إخلال بمقاصد
الشريعة الأخرى كالدين والأنفس والأعراض .
3- أن وجود المال في يد الأمة يغني الأمة عن أعدائها ، فلا
يتسلط عليها أعداؤها ، فمن لم يملك قوته لا يملك قراره . والمقصود من المال في
الشريعة ليس هو كنزه أو التفاخر به ، وإنما ليحقق مصالح شرعية أخرى أعظم وأجل ؛ إذ
المال لا يحمد إلا إذا كان خادما للدين ينفقه صاحبه في سبيل الله ، قال ﷺ : « لا
حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله
الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها »([282]).
والوسائل
التي اتخذتها الشريعة الإسلامية للمحافظة على المال من جانبين :
الأول : من جانب
الوجود ،
وذلك بعدة وسائل .
قد
حثت الشريعة الإسلامية على التكسب من طريق حلال :
أ-
ففتحت الطرق المشروعة للكسب من عمل اليد
، والتجارة ، والزراعة ، والصناعة ، فقال تعالى : ﴿ فإذا قضيت الصلاة
فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾([283])
، وقوله تعالى : ﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه
﴾([284])
، إلى غير ذلك من الآيات . وقال ﷺ : « أطيب الكسب عمل الرجل بيده ، وكل بيع مبرور
»([285]).
ب- رغبت الشريعة في
المال بذكر ما تحصُل بسببه من منافع دينية وأخروية ، فقال تعالى
: ﴿ مثل
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة
، والله يضاعف لمن يشاء ﴾([286])
وقوله تعالى : ﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا
كثيرة
﴾([287])
.
وقال
ﷺ : « ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة ، إلا
كان له به صدقة »([288])
، كذلك لم يؤثر عن أحد من الصحابة أنه ترك العمل والتكسب ، وجلس في بيته أو حتى في
المسجد للعبادة ، بل ورد عنهم ذم ذلك ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "
لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ، ويقول : اللهم ارزقني ! فقد علمتم أن السماء لا تمطر
ذهبا ولا فضة "([289]).
وروي أنه نهر الرجل الذي وجده يتقيد بالمسجد
ويأكل من كدا أخيه . وأثر عن علي رضي الله عنه : " اعمل لدنياك كأنك
تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ! ".
فما
تقدم من أقوال يتضح أن التكسب والبحث عن الرزق بطريق مشروع قد يكون مباحا ، وقد
يكون مستحبا ، وقد يكون واجبا حسب المقصد . فيجب على المرء التكسب للإنفاق على
نفسه وعياله إذا كان قادرا عليه . ويستحب له أن يزيد التكسب ليتصدق على الفقراء ،
وليزيد من المخرج من زكاة ماله .
الثاني : أما حفظ المال
من جانب العدم :
فقد
حافظت الشريعة الإسلامية على المال من جانب العدم ، وذلك بدرء الفساد الواقع أو
المتوقع عليه ، وذلك بالطرق الآتية :
1-
حرمت الاعتداء على المال ، فلا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ، فقال تعالى :
﴿ ولا
تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ ([290])
، وقال تعالى : ﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في
بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ﴾([291])
، وقوله ﷺ : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه منه »([292])
، وقال ﷺ : « كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه »([293])
. إلى غير ذلك من النصوص الزاجرة عن أكل أموال المسلمين بغير حق ([294]).
2- حرمت الشريعة إضاعة الأموال وتبديده والتبذير في إنفاقه
، فقال تعالى : ﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل
مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾([295])
وقال تعالى : ﴿ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه
كفورا
﴾([296])
، كما نهى النبي ﷺ عن إضاعة المال([297])،
كذلك إخبار النبي ﷺ عن سؤال الإنسان يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيما
أنفقه ...([298])
، فيه تحذير للمسلم من إنفاق ماله في غير الطرق المشروعة محافظة عليه . كما أخبر ﷺ
أنه ليس للإنسان من ماله إلا ما أنفقه في طريق مشروع من مأكل ومشرب وملبس وصدقة ،
فيقول ﷺ : « يقول ابن آدم : مالي مالي » قال ﷺ : « وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا
ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ... »([299])
.
كذلك
منعت الشريعة السفيه من تمكينه من ماله حتى يزل سفهه . وكذلك الصغير حتى يبلغ ؛
محافظة علىالمال ، فقال تعالى : ﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله
لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا ○
وابتلوا
اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم
﴾([300]).
3-
شرعت الحدود للمحافظة على المال من الاعتداء عليه ، فأوجبت الشريعة حد السرقة على
السارق ، قال تعالى : ﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء
بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ﴾([301])
.
كما
ضاعف الشارع عقوبة السرقة إذا تكررت بأن تقطع اليد اليمنى عن السرقة الأولى ، فإن
تكررت تقطع رجله اليسري .
كما أنه لمزيد عناية الشارع بالأموال لم تقبل الشفاعة في
الحد بعد رفع الأمر للحاكم ، لذلك لم يقبل ﷺ شفاعة حبِّه أسامة بن
زيد ، ثم قال : « وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها »([302]).
4-
من وسائل حفظ المال من جانب العدم : لزوم ضمان المتلفات على من أتلف مال غيره :
المثل بالمثل في المثلية ، والمتقوم بالقيمة .
5-
مشروعية الدفاع عن المال والقتال من أجله والشهادة لمن يقتل في سبيله ، فقال ﷺ : «
من قتل دون ماله فهو شهيد »([303]).
6-
كتابة الدين والإشهاد عليه ، قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين
آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ﴾ إلى قوله : ﴿ واستشهدوا
شهيدين من رجالكم ﴾([304])
. كما أن الشارع احتاط بالمال الضائع حين فقدانه ، فشرع اللقطة ، وهو أن يعرف ما
وجده حولا كاملا في مجامع الناس بأوصافه كاملة .
سادسا : مقصد
ومصلحة « حفظ العِرْض » :
اختلف
الأصوليون في عد هذا من الضروريات :
1-
فالجمهور لم يعدوا العِرْض من الضروريات ، ولم يذكروه فيها .
2-
وذهب البعض إلى عده من الضروريات وجعلوه مقصدا سادسا : كالطوفي والمحاملي ،
والسبكي ، وابن النجار ، والشوكاني .
واستدلوا
بقوله ﷺ : « إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام »([305])
فالنبي ﷺ قرن الأعراض بالدماء والأموال في الذكر ، وحفظ الدماء والأموال من
الضروريات ، فكذلك الأعراض . قالوا : إن عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم من أجل
أعراضهم ، وما فدي بالضروري أولى أن يكون ضروريا ([306]).
3-
هناك من فصل كالزركشي ، فذهب إلى أن حفظ العِرْض قد يكون من الضروريات ، وهي
الأنساب ، فإن حفظ النسب بتحريم الزنا تارة ، وبتحريم القذف المؤدي إلى الشك في
الأنساب . ومنها ما ليس من الضروريات : كالأعراض غير الأنساب كشتمه بقوله : يا
فاسق ، أو يا ظالم ، أو يا بخيل ، ونحوها .
والراجح
:
عدم عد حفظ العرض من الضروريات على انفراده ؛ لأن العرض إذا كان يتعلق بالأنساب -
وذلك بقذف الإنسان في نسبه أو نسله - فذلك يكون المنع منه من باب المحافظة على
ضروري آخر ، وهو حفظ النسل ، فيكون العرض حينئذ من باب المقاصد والمصالح المكملة
للضرورية ، والمكمل للضروري ضروري .
وإن
كان العِرْض من قبيل الشتم والذم غير القذف ، فهو وإن كان محرما إلا أنه لا يصل
إلى درجة الضروري ، وإنما يكون حاجيا فقط ([307]).
ترتيب المقاصد الضرورية السابقة
تختلف
الضروريات الخمس في أهميتها ، وإن كانت جميعها واقعة في رتبة الضروريات التي يجب
المحافظة عليها .
وفائدة
معرفة ترتيبها : أنه قد يقع التعارض بين مصالحها فيحتاج المجتهد إلى تقديم أقوى
المصلحتين بحسب تعلقها .
والكلام
في ترتيبها من ناحيتين :
الناحية الأولى :
تقديم الدين على غيره من الضروريات .
اختلف
العلماء في تقديم الدين على غيره من الضروريات على قولين :
الأول
:
أن الدين مقدم على سائر الضروريات ، فإذا تعارضت مصلحتان إحدهما : يتعلق بحفظ
الدين ، والأخرى : تتعلق بحفظ النفس أو غيره ، قدمت المصلحة الراجعة إلى حفظ الدين
. وإلى هذا ذهب الجمهور .
الثاني : تقديم الأمور الأربعة
الباقية - وهي حفظ النفس والعقل والنسل والمال – على حفظ الدين. حكاه الآمدي ،
وابن الحاجب ، والفتوحي ، وابن الهمام ، ولم ينسبوه إلى قائل .
استدل
أصحاب القول الأول بما يلي :
1-
أن الدين هو المقصود الأعظم ، فالمقصود من خلق الخلق هو عبادة الله تعالى ، قال
تعالى : ﴿ وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾([308])
، وما عداه مقصود من أجله ، لهذا وجب تقديمه عليها عند التعارض .
2-
قول النبي ﷺ : « فدين الله أحق بالقضاء »([309])
ورد هذا في باب قضاء الصيام والحج عن الميبت ، حيث فُهِم منه أن دين الله وحقه
مقدم على حق الآدمي عند تعارضهما .
واستدل
أصحاب القول الثاني بما يلي :
أ-
أن الأمور الأربعة الأخرى حقوق دنيوية
للآدميين ، وإذا ازدحم الحقان : حق الله وحق الآدمي في محل واحد ، قُدِّم حق
الآدمي على حق الله ، وذلك لما يأتي :
1-
لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة ، والمساهلة ، وحقوق الآدميين مبنية على
المشاحنة والمضايقة .
2-
ولأن الآدمي يتضرر بفوات حقه ، بخلاف رب العزة سبحانه ، فلا يتضرر بشيء بذلك ،
والمحافظة على حق يتضرر صاحبه بفواته أولى مما لا يتضرر بفواته([310]).
ب-
أن هناك صورا قدم فيها حق الآدمي على حق الله تعالى ، منها :
1-
إذا اجتمع القتل العمد العدوان مع الردة في شخص ، فإنه يقتل قصاصا لا كفرا ؛
مراعاة لحق الآدمي ، وهم أولياء المقتول ([311]).
2-
ترجيح مصالح المسلمين المتعلقة ببقاء الذمي بين أظهرهم - وهي دنيوية - على مصلحة
الدين ، حتى عُصِم دمه وماله مع وجود كفره المبيح لقتله([312]).
3-
تخفيف الصلاة عن المسافر بإسقاط ركعتين([313])،
وإسقاط القيام عن المريض تقديما لمصلحة النفس
على الدين ، وكذلك ترك الصلاة من أجل إنقاذ الغريق([314]) ... إلخ.
الترجيح
:
مما تقدم يتضح أن الراجح هو تقديم المصلحة الدينية على المصلحة
الدنيوية ، أو بتعبير آخر : تقديم الدين على الأمور الأربعة الأخرى ، وذلك لما يلي
:
1-
أن هذا يعتبر إجماعا لهم في الحقيقة والواقع ؛ لأن القول المقابل لم يعرف له قائل
، بل بعضهم حكاه بصيغة الاعتراض ، فلا يعتد به ، وأدلته مردودة .
2-
أن هناك نصوصا تثبت حماية الدين بالأنفس والأموال : كقوله تعالى : ﴿ انفروا
خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ﴾ ([315]).
3-
أن المقصود الأعظم حفظ الدين ، والمقاصد الأربعة الأخرى مطلوب حفظها من أجله – كما
سبق بيانه – لأن المحافظة على النفس من أجل عبادة الله . والمحافظة على العقل ترجع
إلى حفظ الدين والنفس والمال . والمحافظة على المال ترجع إلى حفظ الدين والنفس .
وحفظ النسل راجع إلى حفظ النفس . فالكل راجع إلى حفظ الدين سواء أكان بطريق مباشر
أو غير مباشر .
4-
أن ما ذكر من أمثلة قدم فيها بعض الأمور الدنيوية على الدينية ، فذلك مقيد بحالات
خاصة : كأن تكون المصلحة لها تعلق بحق الله تعالى وحق الآدمي ، فيقدم ما لزم عنه
حقان على ما لزم عنه حق واحد . كما في ترك الصلاة من أجل إنقاذ غريق أو حريق فإن
في إنقاذه حياة للنفس ، ثم أداء الصلاة بعدها ، فالمصلحة الدينية هنا لا تفوت
بالكلية .
أو
إذا كان يلزم من تقديم المصلحة الدنيوية حفظ الدينية ، ويلزم من حفظ الدينية تضييع
وتفويت الدنيوية كما في القصاص مع الردة ، فحينئذ يلزم تقديم المصلحة الدنيوية
لعدم تفويتها للمصلحة الدينية ، لذلك قدم القتل قصاصا على القتل كفرا كما سبق في
قتل العمد العدوان مع الردة ([316]).
الناحية الثانية : الترتيب
بين سائر الضروريات غير الدين
اتفق الأصوليون على تقديم حفظ النفس على غيره من الضروريات
الأخرى غير الدين .
واختلفوا
في الترتيب : بين النسل والعقل . وفي الترتيب : بين المال والعرض عند من عده من
الضروريات :
1-
فبعضهم : قدم النسل أو النسب على العقل : كالآمدي وابن الحاجب ومن وافقهما .
2-
وبعضهم : قدم العقل عن النسب أو النسل : كابن السبكي ومن وافقه .
أما
العرض والمال فابن السبكي سوَّى بين العرض والمال ، فعطف بينهما بالواو ، وعطف
غيرهما بالفاء المقتضية الترتيب والتراخي ، فقال : " كحفظ الدين فالنفس
فالعقل فالنسب فالمال والعرض "([317])
.
وأما
زكريا الأنصاري فقد عطف العِرْض على المال بالفاء – المقتضية الترتيب والتعقيب([318])–
فدل على أنه يقدم المال على العرض.
والظاهر
أن حفظ العرض - كما رجحنا من قبل - منه : ما يرجع إلى حفظ النسب والنسل ، وهو
حينئذ مقدم على المال . ومنه : ما لا يرجع إلى حفظ النسب والنسل كالسب بغير القذف
والزنا ، فهو من الحاجيات حينئذ ويؤخر على حفظ المال ([319]).
القسم الثاني : المقاصد أو المصالح
الحاجية
تعريفها
، هي : « ما كان مفتقرا إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب ، فإذا لم تراع
دخل على المكلفين – على الجملة – الحرج والمشقة ، ولكنه لا يبلغ مبلغ
الفساد العادي المتوقع في المصالح الضرورية
العامة » ([320]).
وعليه
فالحاجيات لم تبلغ فيها الحاجة مبلغ الضرورة ، بحيث لو فقدت لاختل نظام الحياة
وتعطلت المنافع ، وعدمت الضروريات أو بعضها . بل لو فقدت لَلَحِقَ الناس عنت ومشقة
وحرج يشوش عليهم عباداتهم ويعكر عليهم صفو حياتهم ، وربما أدى ذلك إلى الإخلال
بالضروريات بوجه ما ([321]).
ولقد
جاءت الشريعة الإسلامية بما يحقق الحاجيات ويرفع الحرج ويدفع المشقة ، فقال تعالى
: ﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾([322])
، وقال تعالى : ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾([323])
، ونحو ذلك .
ومن
هنا قال الفقهاء : « المشقة تجلب التيسير »([324])
.
والحرج
الذي رفعته الشريعة قد يكون في العبادات ، وقد يكون في العادات ، وقد يكون في
المعاملات ، وقد يكون في الجنايات .
فمثال
ما كان في العبادات : الرخص المخففة ؛ إذ قد تلحق بالعبادات مشقة غير معتادة ،
فيشرع الشارع الرخص التي تقابلها لدفع تلك المشقة : كرخصة الفطر في نهار رمضان
للمريض والمسافر ، قال تعالى : ﴿ فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ﴾([325])
، كذلك قصر الصلاة الرباعية للمسافر من أجل السفر الذي فيه مظنة المشقة ، قال
تعالى : ﴿ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن
يفتنكم الذين كفروا ﴾([326])
.
والحاجيات
من العادات : فقد أباح الله تعالى للمكلف ما يرفع عنه الحرج من شتى أنواع الطيبات
مما هو حلال : مأكلا ومشربا وملبسا ومسكنا ومركبا وما أشبه ذلك .
وليس
كل ما كان من جنس هذه الأمور واقعا في مرتبة الحاجيات ، كما يتبادر إلى الذهن ؛ إذ
منها ما يدخل في الضروريات ، والحاجيات ، والتحسينيات : فمثلا ما يحتاجه الإنسان
من مأكل ومشرب :
1-
قد يكون من الضروريات إذا كان لا بد منه ، بحيث إذا لم يأكل أو يشرب هلك .
2-
فما زاد على ذلك فإن لحقه بتركه حرج فهو في رتبة الحاجيات .
3-
وإن لم يلحقه بتركه حرج كان من رتبة التحسينيات . وعليه فما كان في أدناها مما لا بد
منه من مأكل فهو ضروري . وما كان أعلاها : كأكل الطيبات فهو من المكملات . وما كان
بينهما فهو من الحاجيات .
والحاجيات
من المعاملات : فقد شرع الله تعالى للناس من المعاملات ما يحقق ذلك الانتفاع وتلك
المصلحة ، وإن حصل ضمن ذلك شيء من الغرر والجهالة اليسيرة ، فقد عفا الشارع عنه
لما يحققه في مقابل ذلك من مصالح ومنافع أعظم من تلك المفاسد :
أ-
فشرع الشارع القراض « المضاربة » : وهو أن يدفع شخص لآخر مالا ليتجر فيه ، والربح
مشترك بينهما . وذلك لحاجة الناس إليه .
ووجه
الحاجة إليه : أن الإنسان قد يكون له مال يحتاج إلى تنميته بالتجارة ، لكن ليست
لديه خبرة بها ، وآخر لديه خبرة بالتجارة وليس له مال ، فشرعت لدفع الحاجتين :
حاجة صاحب المال ، وحاجة صاحب الخبرة .
ب-
وشرع أيضا « المساقاة » : وهي معاملة على تعهد شجر بسقْيه ، وكل ما يلزمه بجزء من
ثمرته ([327]).
وذلك بأن يكون لبعض الناس أرض فيها نخيل وأشجار ولم يكن قادرا على مباشرتها وسقيها
، فيحتاج إلى آخر فقير يقوم بمباشرتها وسقيها مقابل جزء من الثمرة .
فالغني
صاحب الشجر يحتاج إلى من يقوم بسقيها ؛ لأنها لو أهملت فسيلحق بها ضرر بالغ .
والفقير في حاجة إلى ما يسد حاجته ويدفع فقره ، فشرعت لرفع الحرج عن الاثنين معا .
جـ
- وشرع أيضا « السلم » : وهو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس
العقد . فهو تقديم للثمن وتأخير للمثمن . وقد شرع السلم للحاجة : حاجة أصحاب
الزروع والثمار والتجارات إلى النفقة على أنفسهم وعليها لتكمل ، فيسلفون على الغلة
لعدم وجود نقود معهم . وأصحاب النقود ينتفعون بالرخص ، فجوز لهم ذلك مع ما فيه من
غرر - لأنه عقد على مجهول – لمصلحة الطرفين .
ومن
أمثلة رفع الحرج في الجنايات : أن الشارع جعل دية الخطأ على عاقلة المخطئ في القتل
مع أنه القاتل ، فكان أولى بها ، لكن الشارع رفع الحرج عنه فجعلها على عاقلته ؛
لأنه لو تحملها وحده للحق به ضرر وضيق مع أنه لم يقصد القتل ([328]).
من هذا كله يتضح أن الشريعة الإسلامية وفتْ بحاجات الناس في
جميع نواحي حياتهم ، ورفعت الحرج عنهم ووسعت عليهم في عباداتهم ومعاملاتهم ،
وخففت عنهم في جناياتهم إذا كانت من غير قصد ([329]).
قال
ابن عاشور : " يظهر أن معظم قسم المباح في المعاملات راجع إلى الحاجي ، والنكاح
الشرعي من قبيل الحاجي ، وحفظ الأنساب – بمعنى إلحاق الأولاد بآبائهم – من الحاجي
للأولاد والآباء فللأولاد للقيام عليهم فيما يحتاجون ولتربيتهم النافعة لهم . وللآباء
لاعتزاز العشيرة وحفظ العائلة. وحفظ الأعراض – أي أعراض الناس من الاعتداء عليها
بالسب والشتم – هو من الحاجي لينكف الناس عن الأذى بأسهل وسائله وهو الكلام .
ومن
الحاجي : ما هو تكملة للضروري : كسد بعض ذرائع الفساد ، وكإقامة القضاء والشرطة
لتنفيذ الشريعة .
ومن
الحاجي أيضا : ما يدخل في الضروري غير أنه ليس بالغا حد الضرورة ، فبعض أحكام
النكاح : كاشتراط الولي والإشهاد ليست من الضروري ، ولكنها من الحاجي لحفظ النسل "
.
يقول
أيضا : " وعناية الشارع بالحاجي تقترب من عنايته بالضروري ، ولذلك رتب الشارع
الحد على تفويت بعض أنواعه : كحد القذف لحفظ الأعراض " ([330]).
الغاية من وجود
المقاصد الحاجية
يمكن
تلخيص الغاية المقصودة من المقاصد الحاجية فيما يلي :
1-
رفع الحرج عن المكلفين ، وذلك لأمرين :
أ-
الخوف من كراهة التكليف وبغض العبادة والانقطاع عنها .
ب-
الخوف من التقصير عند مزاحمة التكاليف : كقيامه بالفرائض الشرعية ، وقيامه على
أهله وولده . فلو كُلِّف بعمل شاق فربما يشغله عن غيره مما كلف به .
2-
المحافظة على الضروريات وحمايتها ، وذلك بدفع ما يمسها أو يؤثر فيها ولو من بعد .
3-
خدمة الضروريات ، وذلك بتحقيق ما به صلاحها وكمالها ؛ إذ يلزم من اختلال الحاجي
بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما .
هذا
بالإضافة إلى مصالح أخرى راعاها الشارع عند تشريعه للمقاصد الحاجية ([331]).
الفرق بين المصالح
الضرورية والمصالح الحاجية
وعلى
هذا يفرق بين المصالح الحاجية والمصالح الضرورية بما يلي :
1-
أن المصالح الضرورية هي الأصل ، بينما المصالح الحاجية خلاف الأصل ؛ إذ شرعت لرفع
الحرج والضيق عن أصحاب الأعذار .
2-
أن المصالح الضرورية مقدمة على المصالح الحاجية عند التعارض ؛ إذ رتبة الضرورية
التقديم ، بينما رتبة الحاجية التأخير .
3-
أن الضرر الواقع واللاحق بفوت المصالح الضرورية عام يلحق جميع المكلفين ، بخلاف
الحاجيات فالضرر الواقع بفوتها وعدم مشروعيتها يلحق البعض في الغالب ، وهم من قامت
لديهم الأعذار التي أدت إلى تشريع الحكم المخفف لهم : مثل إباحة قصر الصلاة
الرباعية ، والفطر للمسافر والمريض . فإن هذا الحكم جاء لرفع الحرج والضيق عنهما
خاصة دون جميع المكلفين .
وعليه
فمراعاة الضروريات أمر حتمي ، وعدم مراعاتها يؤدي إلى فساد وتهارج وفوت حياة ، فيختل النظام العام بينما مراعاة
الحاجيات فيه توسعة وتيسير على المكلفين ، وعدم مراعاتها يدخل الحرج
والمشقة على المكلفين على الجملة ، لكنه لا يبلغ مبلغ الفساد الناتج عن تعطل
المصالح الضرورية ، وإن كان قد يؤدي إلى الاختلال بالضروريات في بعض الأحيان كاشتراط
الولي والإشهاد في النكاح ، وكإقامة القضاء والشرطة لتنفيذ الشريعة .
القسم الثالث : المقاصد أو المصالح التحسينية
مما
لا شك فيه أن الشريعة الإسلامية جاءت للارتقاء بالإنسان نحو الكمال ، فحثته على
الفضائل وجبته فيها ، وحذرته من الرذائل وبغضها له ، فقال ﷺ : « إنما بعثتم لأتمم
مكارم الأخلاق » وفي رواية أخرى : « صالح الأخلاق »([332])
.
لهذا
ستعرف التحسينيات ونقسمها ، ونبين أهميتها ، فنقول :
أ- تعريف التحسينيات
:
عرفت
التحسينيات بتعاريف متعددة متقاربة :
1- فعرفها إمام
الحرمين بأنها : « ما لا يتعلق به ضرورة خاصة ولا حاجة عامة ، ولكنه يلوح فيه غرض
في جلب مكرمة أو نفي نقيض لها ... » ([333]).
2-
وعرفها الغزالي بأنها : « ما لا يرجع إلى ضرورة ، ولا إلى حاجة ، ولكن يقع موقع
التحسين والتزيين للمزايا والمزائد ورعاية أحسن المناهج »([334])
3-
وعرفها الشاطبي ، بأنها : « الأخذ بما يليق من محاسن العادات ، وتجنب الأحوال
المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق ... »([335]).
4-
وعرفها ابن عاشور بأنها : « ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة
مطمئنة ولها بهجةُ منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم ، حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوبا
في الاندماج فيها أو في التقرب منها » ([336]).
والذي
نميل إليه هو تعريف الشاطبي ؛ إذ هو يجمع كل التعاريف بعبارة جامعة بليغة تشمتل
على ضوابط واضحة تدل على أن المصالح التحسينية لا يتضرر الناس بتركها ، ولا يلحقهم
حرج وضيق بفقدها .
أقسام التحسينيات :
الأول : ما لا يقع
في معارضة قاعدة شرعية ، هذا منه :
1- ما يتعلق
بالعبادات :
مثل
: طهارة البدن ، والثياب ، والمكان في الصلاة وخارجها فقد دعا الإسلام إليها وحث
عليها ، فقال تعالى : ﴿ وثيابك فطهر ﴾ ([337])،
وقال : ﴿ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ﴾([338])
. بل جعلها شرطا في صحة الصلاة ، فقال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى
الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ﴾ ([339]).
كما
أنه تعالى أمر بأخذ الزينة وستر العورة عند كل مسجد ، فقال : ﴿ يا بني آدم خذوا
زينتكم عن كل مسجد ﴾([340])
والمقصود بذلك ستر العورة ، كما دل على ذلك سبب نزول الآية ، حيث كانت العرب تطوف
بالبيت عراة إلا الحُمْس – وهم قريش وما ولدت – كانوا يطوفون عراة إلا أن تعطيهم
الحمس ثيابا فيعطي الرجالُ الرجالَ والنساءُ النساءَ ... ([341]).
كما
أن المرأة فيما رواه ابن عباس كانت تطوف بالبيت ، وهي عريانة فتقول : من يُعيرني
تَطوافا ، تجعله على فرجها ، وتقول :
اليـوم
يبـدو بعضه أو كـله |
○ |
فمـا
بـدا منـه فلا أحـله |
فنزلت الآية ، وهي قوله
تعالى : ﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عن كل مسجد .. ﴾([342]).
وهذا
يدل على أن الطواف بالبيت على تلك الحالة لم يكن يفعله كل العرب بل يفعله منهم
اضطرارا لا اختيارا ؛ لأن هذا أمر مستقبح عندهم عادة وطبعا . فجاءت الشريعة
الإسلامية بتحريم الطواف حول الكعبة حال كشف العورة ، فقال ﷺ : « ألا يطوف بالبيت
عريان » ([343]).
وبهذا
يظهر فضل الشريعة التي جاءت بالمصالح وما يكملها ، ودرأت المفاسد وقللتها في دقيق
الأمور وجليلها .
2- منه ما يتعلق
بالعادات :
وذلك كآداب الأكل والشرب : فشرع الشارع آدابا للأكل والشرب
: إما سابقة له أو قارنة له أو لاحقة له : كالتسمية في أوله والأكل باليمين ،
والأكل مما يلي الإنسان ، وحمد الله بعده ، وشكر صاحب الطعام
والدعاء له .
كذلك
في الشراب : نهى الشارع عند الشرب قائما والتنفس في الإناء ، ونحو ذلك من الآداب
التي تظهر النظام في حياة المسلم حتى في مأكله ومشربه .
كذلك أحل الله الطيبات وحرم الخبائث ، فأمرته الشريعة أن
يجانب المآكل النجسات ، والمشارب المستخبثات لكون المستخبث لا تميل إليه الطباع ،
ولكون ذلك مما لا يليق بعاقل ، فضلا عن كونه مسلما ([344]).
3- ومنه ما يتعلق
بالمعاملات :
وذلك
كالمنع من بيع النجاسات ، وفضل الماء والكلأ ، ومباشرة المرأة العقد بنفسها في
النكاح ؛ لأن بيع النجاسات يستلزم مباشرتها وكيلها ووزنها ، ونحو ذلك ، وهو لا
يليق بمسلم . ولأن بيع فضل الماء والكلأ يدل على بخل وأنانية البائع ، وهما لا يليقان
بمسلم . ولأن تولية المرأة ومباشرتها عقد النكاح يخدش حياءها ، ويشعر الناس
بتوقانها للنكاح وشوقها للرجال ، وهذا لا يليق بالمرأة المسلمة ، وما عرفت به من
حياء([345]).
4- ومنه ما يتعلق
بالجنايات :
وذلك
كمنع قتل الحر بالعبد أو قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد ؛ لأن ذلك من
محاسن الأخلاق ، ومكارم الصفات ([346]).
القسم الثاني من
التحسينيات : ما يقع في معارضة قاعدة شرعية .
ومثلوا
له بالمكاتبة . فإن الأمة غير محتاجة إلى الكتابة ؛ إذ لو منعت منها لم يحصل بذلك
ضرر لها ، لكنها شرعت لما فيها من تكريم بني آدم ، وفك رقبته من الرق ، وذلك
مستحسن بحكم العادة .
ووجه
مخالفته للقواعد الشرعية : إن العبد وما يكسبه مال لسيده ، فتكون مكاتبة السيد
عبده من قبيل بيع ماله بماله . فلو حكم على المكاتبة بالقاعدة الشرعية وهي امتناع
بيع الشخص ماله بماله ؛ لحكم عليها بعدم الجواز ؛ لعدم الفائدة ولكونه تحصيل حاصل
. بالإضافة إلى أن البيع لا بد فيه من عاقدين ، وهنا عاقد واحد .
والظاهر
: أن السيد في هذه الحالة لم يبع ملكه بملكه حتى يكون مخالفا للقاعدة الشرعية كما
قيل ؛ لأن العبد المكاتب اشترى نفسه بمال في ذمته ، والسيد لا سلطان له على ذمة
العبد ، وإنما سلطانه على ماليته . وعليه فما يحصله العبد من نجوم الكتابة ليس
ملكا لسيده حتى يكون السيد قد باع ماله بماله ، وإنما هو ملك للعبد المكاتب ، أو
الأمة المكاتبة ([347]).
أهمية المصالح
التحسينيات :
1-
أن التحسينيات كالفرع للأصل الضروري ، ومبنية عليه ؛ لأنها تكمل ما هو ضروري أو
حاجي . فإن كملت ما هو ضروري فظاهر . وإذا كملت ما هو حاجي ، فالحاجي مكمل للضروري
، والمكمل للمكمل مكمل كما صرح الشاطبي .
2-
أن المصالح التحسينية خادمة للحاجية والضرورية .
3-
يلزم من اختلال التحسيني اختلال الحاجي بوجه ما .
4-
أن التحسينيات يظهر بها جمال الأمة وكمالها وحسن أخلاقها وبديع نظامها ، وبها تكون
الأمة الإسلامية مرغوبا في الاندماج فيها أو في التقرب منها ([348]).
تتمة في المكملات
بعد
الكلام عن مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية ناسب أن نتكلم عن مقاصدها
المكملة والمتممة لهذه الثلاثة . فالله تعالى شرع مع الأحكام التي تحفظ كل نوع من المقاصد
الثلاثة أحكاما أخرى تعتبر مكملة ومتممة لها في تحقيق مقاصدها .
وعليه
فينبغي تعريفها وبيان أقسامها وشروطها ووظيفتها ، فنقول :
تعريف
المكملات : هي ما يتم به المقصود أو الحكمة من الضروري أو الحاجي أو التحسيني على
أحسن الوجوه وأكملها ، سواء أكان ذلك بسد ذريعة تؤدي إلى الإخلال بالحكمة بوجه ما
، أم بتكميله بحكم يظهر به المقصد ويتقوى .
أقسامها :
تنقسم
المكملات حسب تقسيم المقاصد السابقة :
1-
فهناك مكملات للضروريات .
2-
وهناك مكملات للحاجيات .
3-
وهناك مكملات للتحسينيات .
1- مكملات الضروريات
:
وهي
: ما يتم بها حفظ المقاصد الضرورية .
وذلك
مثل : إظهار شعائر الدين عن طريق صلاة الجماعة في الفرائض والسنن ، فإنه مكمل لحفظ
الدين ([349]).
هذا
: ويلاحظ أن هناك اختلافا بين العلماء في التمثيل للمكملات ، فالشاطبي قد توسع في
ذلك حيث جعل وسائل حفظ الدين إجمالا حاصلة في ثلاثة معان ، هي : الإسلام ،
والإيمان ، والإحسان . والمكمل لحفظ الدين ثلاثة أشياء ، هي : الدعاء إلى الدين
بالترغيب والترهيب ، وجهاد من عانده أو رام إفساده ، وتلافي النقصان الطارئ في
أصله . وبناء على هذا يكون الدعاء إلى الدين ، والجهاد في سبيله ، ومحاربة المعتدين
والمبتدعين ، ونحو ذلك من مكملات حفظ الدين : أي من مكملات الضروريات([350]).
غير
أن الشاطبي في موضع آخر من كتابه « الموافقات »([351])
: قد مثل لحفظ الدين من جانب الوجود بالإيمان بالله تعالى ، والنطق بالشهادتين ،
والصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، وما أشبه ذلك .
ومثل
لحفظ الدين من جانب العدم : بالجنايات ، فإنها تدرأ الاختلال الواقع على الدين أو
المتوقع وعلى غيره من الضروريات من جانب العدم .
وبناء
على هذا : يدخل في حفظ الدين من جانب العدم كل ما يؤدي إلى الاختلال الواقع أو
المتوقع ، وبذلك يكون جهاد المعتدين ومحاربة المبتدعين من الضروريات ؛ لأنه من
قبيل حفظ الدين من جانب العدم في حين أن قوله الفائت يفيد : أن جهاد المعتدين من
قبيل حفظ الدين من جانب الوجود .
وبناء
على مسلكه هذا يُمثَّل لمكملات الضروريات بإظهار شعائر الصلوات بأدائها في جماعة
في الفرض والسنن ، فإنه مكمل لحفظ الدين ، والتماثل في القصاص فإنه مكمل لحكمة
القصاص في حفظ النفس .
لذلك
فقد اختلف بعض المحدثين في التمثيل بالجهاد :
فبعضهم
مثل به لحفظ الدين من جانب الوجود : كالشيخ اليوبي .
وبعضهم
مثل به لحفظ الدين من جانب العدم : كالشيخ يوسف العالم .
والحقيقة
: أن كلا التمثيلين صواب ؛ لأن من نظر إلى أن الجهاد دعوة وعمل من الأعمال التي
تساعد على نشر الدين ، وأنه ثابت بنص إلزامي فقد مثل به لحفظ الدين من جانب الوجود
. ومن نظر إلى أنه تضحية بالنفس والمال لدفع المعتدين ، ودرء فسادهم ، ودفع كل من
رام منع الدين ، فقد مثل به لحفظ الدين من جانب العدم ؛ لأن الجهاد في الإسلام
يكون هجوما من وجه ، ودفاعا من وجه آخر . وعليه فتلك اصطلاحات ، ولا مشاحة في
الاصطلاح .
كذلك
اشتراط التماثل في القصاص مكمل لحفظ النفس ؛ لأن عدم اشتراط التماثل يخل بمقصد حفظ
النفس ، لما فيه من مفسدة إثارة الأحقاد ، والعداوات ، وإثارة العصبية بين القبائل
.
كذلك
تحريم النظر إلى الأجنبية بشهوة مكمل لحفظ النسل ؛ لأن النظر مقدمة للزنا وداعٍ
إليه ، فسدا للذريعة حرم النظر والخلوة بالأجنبية .
أيضا
: حرم الشارع القليل من المسكر ؛ لأنه مكمل لمقصد حفظ العقل .
وكذا
الإشهاد في البيع فإنه مكمل لحفظ الأموال ؛ لأنه لو حصل البيع بدون إشهاد لربما
يؤدي إلى الإنكار فتضيع الأموال .
2- مكملات الحاجيات
:
وهي
: ما يتم بها حفظ المقاصد الحاجية .
وذلك
مثل : اشتراط الكفء ومهر المثل في نكاح الصغيرة ، فإنه مكمل للمقصود الحاجي من
النكاح الذي هو دوام العشرة والسكن والمودة بين الزوجين .
ومثل
: خيار البيع فإنه مكمل للمقصود الحاجي من البيع الذي هو تمام الملك وبُعْده عن
الغبن والتدليس .
3- مكملات
التحسينيات .
وهي
ما يتم بها حفظ المقاصد التحسينية .
وذلك
مثل : مندوبات الطهارة : كالبدء باليمين والغسل ثلاثا ، ونحوهما ، فإنه مكمل ومتمم ومحسن لأصل الطهارة ؛ لأن أصل التحسين
يحصل بالطهارة كيفما وقعت .
شروط المكملات :
ويشترط
في المكملات شرط واحد هو : أن لا تعود على أصلها بالإبطال ؛ لأنها لو عادت على
أصلها بالإبطال لبطلت التكملة ؛ لأن في إبطال الأصل إبطال للتكملة ؛ لأن التكملة
مع ما كملته كالصفة مع الموصوف ، وارتفاع الموصوف يلزم منه ارتفاع الصفة .
مثلا
: أصل البيع ضروري ، ومنع الجهالة مكمل له ، فلو اشترط نفي الضرر جملة لأدى إلى
عدم وجود بيع ، فحتى لا يعود على أصله بالإبطال أباح الشارع بعض الغرر والضرر اليسير
في البيع ، ولم يشترط نفي الضرر جملة ، وهكذا ... .
وظيفة المكملات :
من
خلال ما تقدم يتضح أن للمكملات وظائف منها :
1-
سد الذرائع الموصلة إلى الإخلال بالمقاصد الضرورية والحاجية والتحسينية على النحو
الذي بيناه في تحريم النظر إلى الأجنبية ، وتحريم شرب قليل المسكر .
2-
تحقيق مقاصد أخرى تابعة غير المقصد الأصلي ، كما ذكرنا في اشتراط الكفاءة ، ومهر
المثل عند تزويج الصغيرة .
3-
دفع مفاسد أخرى حاصلة في طريق الحصول على المقصد الأصلي : كاشتراط المماثلة في
القصاص .
4-
تحسين صورة المكمل وجعله متمشيا مع المألوف المعتاد ([352]).
ثانيا : تقسيم المصالح باعتبار تعلقها بعموم الأمة .
تنقسم
المقاصد أو المصالح باعتبار مراتبها في الوضوح والخفاء كما صرح الغزالي إلى ثلاثة
أقسام . أو باعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعتها وأفرادها كما صرح ابن عاشور.
يقول
الغزالي في « شفاء الغليل » : " تنقسم المصلحة قسمة أخرى باعتبار مراتبها في
الوضوح والخفاء : فمنها ما يتعلق بمصلحة عامة في حق الخلق كافة . ومنها : ما يتعلق
بمصلحة الأغلب . ومنها : ما يتعلق بمصلحة لشخص معين في واقعة نادرة "([353]).
وقد
اقتصر ابن عاشور على قسمين منها : هما المصلحة الكلية والمصلحة الجزئية . وجعل
الكلية شاملة لما يتعلق بكافة الأمة ، وبما يتعلق بمصلحة الأغلب منها ، والجزئية ما
عدا ذلك ([354]).
وإليك
البيان :
1- المصلحة العامة
أو الكلية :
تعريفها
:
عرفها
الغزالي بأنها : ما يتعلق بمصلحة عامة في حق الخلق كافة([355])
.
وعرفها
ابن عاشور بأنها : ما كان عائدا على عموم الأمة عود متماثلا ([356]).
قال
ابن عاشور : " فالمصلحة العامة لجميع الأمة قليلة الأمثلة ، وهي مثل حماية
البيضة – أي الحوزة – وحفظ الجماعة من التفرق . وحفظ الدين من الزوال . وحماية
الحرمين – مكة والمدينة – من أن يقعا في أيدي غير المسلمين ، وحفظ القرآن من
التلاشي العام ، أو التغيير العام بانقضاء حُفَّاظه ، وتلف مصاحفه معا .
وحفظ
علم السنة من دخول الموضوعات والمكذوبات عليه ونحو ذلك مما صلاحه وفساده يتناول
جميع الأمة وكل فرد منها ، ويدخل في ذلك بعض صور الضروري والحاجي مما يتعلق بجميع
الأمة .
2- المصلحة التي
تتعلق بالأغلب :
وهي
المصلحة التي تتعلق بالأعم الأغلب من الناس ، كما صرح الغزالي .
أو هي ما كانت عائدة على جماعة عظيمة من الأمة أو قطر ، كما
صرح ابن عاشور([357])
.
وقد
مثلوا لها : بالمصالح الضرورية والحاجية والتحسينية التي تتعلق بالأمصار والقبائل
، والأقطار على حسب مبلغ حاجتها : مثل التشريعات القضائية لفصل النوازل والعهود
المنعقدة بين أمراء المسلمين ، وملوك الأمم المخالفة في تأمين تجار المسلمين
بأقطار غيرهم إذا دخلوها للتجارة ، وتأمين البحار التي تحت سلطة غير المسلمين
لتمكين المسلمين من مخرها ، والمرور فيها آمنين ، ونحو ذلك .
3- المصلحة الجزئية
:
وهي
المصلحة التي تتعلق بشخص معين في واقعة نادرة ، كما صرح العزالي .
أو
هي المصلحة التي تتعلق بالفرد أو الأفراد القليلة كما صرح غيره .
وهي
أنواع ومراتب ، وقد تكفلت أحكام الشريعة الإسلامية بحفظها في المعاملات ، مثل :
الحكم بفسخ نكاح زوجة المفقود ، والحكم على المرأة التي تباعدت حيضتها بأن تعتد بالأشهر
، فهذه مصلحة خاصة تتعلق بأفراد معينين في وقائع خاصة ، وقد تكفلت الشريعة ببيان
أحكامها ، وحفظ مصالح أصحابها .
هذا
، وهناك من نظر في تقسيم المقاصد أو المصالح إلى عامة وخاصة ، من حيث المعاني
والحكم العامة والخاصة التي راعتها الشريعة وحافظت عليها كالدكتور اليوبي([358])
فقسم المقاصد ثلاثة أقسام : عامة ، خاصة ، جزئية .
1- المقاصد العامة :
وهي
المعاني والحكم الملحوظة في جميع أحوال التشريع أو معظمها ، بحيث لا تختص ملاحظتها
بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة ([359]).
أو هي القضايا الكلية والأهداف العامة التي
راعتها الشريعة الإسلامية في جميع تشريعاتها من عبادات ، ومعاملات ، وعادات ،
وجنايات : كحفظ الضروريات الخمس وعلى رأسها الدين ، أو راعتها في أغلب الأحوال
كالتشريعات القضائية لفصل النوازل ونحوها من الحاجيات المتعلقة بالأمصار والأقطار
.
2- المقاصد الخاصة :
وهي
الأهداف والغايات والمعاني الخاصة بباب معين من أبواب الشريعة أو أبواب متجانسة منها أو في مجال معين من مجلاتها : كمقاصد
العبادات ، والمعاملات ، والجنايات ، أو كالمقاصد المتعلقة بباب الطهارة
كله ، أو بالبيوع كله .
فمقصد
العبادات : الخضوع لله تعالى والتذلل له والانقياد تحت حكمه ، فهو وإن كان عاما
لكل الأمة إلا أنه خاص بالعبادات .
ومقصد
المعاملات : تحقيق مصالح العباد المتبادلة ، وهي كذلك عامة للعباد خاصة بالمعاملات
.
ومقصد
الجنايات : أنها جوابر لأصحابها ، فمن امتنع عنها فله أجر ، ومن أصاب شيئا منها
فعوقب فهو كفارة له ، وزواجر تزجر الجاني عن معاودة الجريمة وتزجر غيره ممن يريد
أن يفعل فعله .
3- المقاصد الجزئية
:
وهي
المقاصد المتعلقة بمسألة معينة دون غيرها من المسائل : كمسائل الوضوء أو الصلاة أو
البيوع أو غيرها من الفروع . وهذا النوع لقي عناية فائقة من العلماء خاصة الذين كتبوا
في المصالح كالعز بن عبد السلام ، وكذلك كتب الفقه ، فإنها كثيرا ما تشير إلى علل
الأحكام ، ومظنة وجودها فارجع إليها إن شئت .
وتظهر
أهمية تقسيم المصالح بهذا التقسيم :
أنه
إذا وقع تعارض بين المصالح العامة والمصالح الغالبة أو الخاصة الجزئية تُقَدَّم
المصالح العامة ، ولهذا تقدم المصالح الضرورية على غيرها ؛ لعمومها ، كذلك إذا وقع
تعارض بين المصالح الغالبة والمصالح الخاصة ببعض الأفراد تقدم المصالح الغالبة ،
ولذلك تقدم مصلحة أرباب السوق على مصلحة
التاجر المتلقي الركبان ، لذلك منع الشارع بيع تلقى الركبان .
ثالثا : أقسام المصالح باعتبار تحقق الاحتياج إليها
أو باعتبار تحقق الحاجة إلى جلبها أو دفع الفساد عن أن يحيق بها .
تنقسم
المصالح باعتبار تحقق الحاجة إلى جلبها أو دفع الفساد عن أن يحيق بها إلى ثلاثة
أقسام : قطعية ، ظنية ، وهمية .
1- المصالح القطعية
:
أ-
هي التي دلت عليها أدلة من قبيل النص الذي لا يحتمل تأويلا نحو قوله تعالى :
﴿ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ﴾([360])
.
ب-
وكذلك ما تضافرت الأدلة الكثيرة عليه عن طريق استقراء الشريعة ، مثل : الكليات
الضرورية الخمس المتقدمة .
جـ-
أو ما دل العقل على أن في تحصله صلاحا عظيما ، أو أن في حصول ضده ضررا عظيما
ومفسدة عظيمة على الأمة ، مثل : قتال مانعي الزكاة في زمن أبي بكر الصديق رضي الله
عنه .
2- المصالح الظنية :
أ-
وهي ما دل عليه دليل ظني من الشرع .
مثل
حديث : « لا يقضي القاضي وهو غضبان » ، فالنهي عن القضاء حالة الغضب مصلحة ظنية ؛
لاحتمال عدله حالة الغضب .
ب-
أو هي ما اقتضى العقل ظنه .
مثل
: اتخاذ كلاب الحراسة في الدور في الحضر في زمن الخوف في القيروان أو في غيرها من
البلدان([361]).
كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد القيرواني قد اتخذ كلبا بداره ، فقيل له : إن مالكا
إمام مذهبك كره اتخاذ الكلاب للحراسة في الحضر ، فقال : لو أدرك مالك مثل هذا
الزمن لاتخذ أسدا على باب داره ([362]).
3- المصالح الوهمية
:
وهي
التي يتخيل فيها صلاح وخير ، وهو عند التأمل ضرر وفساد : إما لخفاء ضره مثل تناول
المخدرات من الأفيون والحشيشة ، والكوكايين والهروين ، فإن الحاصل بها لمتناوليها
ملائم لنفوسهم ، وليس هو بصلاح لهم أو لكون الصلاح مغمورا بفساد ، كما أنبأنا عنه
العليم الخبير بقوله تعالى : ﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع
للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾([363])
.
رابعا : تقسيم المقاصد أو المصالح باعتبار قصد الشارع لها أصلة أو
تبعا
تنقسم
المقاصد الشرعية بهذا الاعتبار إلى قسمين :
الأول : المقاصد
الشرعية الأصلية :
وهي
التي لا حظ فيها للمكلف ، وإنما تتعلق بمصالح عامة مطلقة لا تختص بحال دون حال ،
ولا بوقت دون وقت ، وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة ، وهي تنقسم إلى قسمين :
أ-
ضرورية عينية :
وهي
الواجبة على كل مكلف في نفسه وعينه . وهي تشتمل حفظ الدين ، والنفس ، والعقل ،
والنسل ، والمال . فكل مكلف مأمور بحفظ هذه الضروريات الخمس .
ومن
هنا لو فرض اختيار العبد خلاف هذه الأمور لحُجِرَ عليه ، ولحيل بينه وبين اختياره
، فيصير مسلوب الحظ محكوما عليه في نفسه .
ب-
ضرورية كفائية :
وهي
المصالح العامة التي يناط بالغير أن يقوم بها على العموم في جميع المكلفين ، لتستقيم
الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها ، وهم ممنوعون من استجلاب الحظوظ
لأنفسهم بما قاموا به ، مثل : قيام الوالي بالولاية والقاضي بالقضاء ، والمفتي
بالفتوى ، فلا يجوز لهم أخذ الأجرة ممن تولوهم أو قُضِي لهم أو أفتى لهم .
وهذا
القسم مكمل للأول ولاحق به ؛ إذ لا يقوم العيني إلا بالكفائي ؛ لأن الكفائي قيام
بمصالح الخلق عامة ، فالمأمور بالكفائي لم يؤمر به بخاصة نفسه ، بل بإقامة الوجود
.
مما
يتقدم يتضح : أن المقاصد الأصلية هي المقاصد المشروعة ابتداء لتحقيق أعظم المصالح
سواء أكانت هذه المصالح ضرورية عينية أم مصالح عامة كفائية تعود على المصالح
الضرورية بالحفظ والتثبيت ([364]).
والثاني : المقاصد
الشرعية التبعية :
وهي
التي روعي فيها حفظ المكلف ومصلحته ، فمن جهتها يحصل له مقتضى ما جبل عليه من نيل
الشهوات والاستمتاع بالمباحات وسد الخلات : كانتفاعه بالطعام ، والشراب ، واللباس
، والمسكن ، ونحو ذلك . فالإنسان وحده لا يستطيع القيام بكل ذلك ، لضعفه ، وإنما
بالتعاون مع غيره ، ومن هنا صارت هذه المقاصد تابعة وخادمة للمقاصد الأصلية ومكملة
لها .
وعليه
فتنقسم المقاصد أو المصالح من حيث قيام الإنسان بها إلى قسمين :
أ-
قسم يكون قيام المكلف فيه بالمصالح بنفسه ومن غير واسطة : كأكله ، وشربه ، ولباسه
، وسكنه .
ب-
وقسم يكون القيام فيه بالمصالح بواسطة الحظ في الغير : كالقيام بحاجات ووظائف
الزوجات ، والأولاد ، والإجارة ، والكراء ، وسائر وجوه الصنائع .
ويتأكد
الطلب ويقدم فيما فيه حظ الغير على ما فيه حظ النفس المباشر ، وهذه حكمة بالغة ([365]).
وعليه
فتنقسم المقاصد التابعة باعتبار تأكيدها للمقاصد الأصلية إلى ثلاثة أقسام :
الأول
: ما يقتضي تأكيد المقاصد الأصلية وتقويتها وربطها والوثوق بها وحصول الرغبة فيها
، وهذا القسم مثبت للمقاصد الأصلية ، ومقوٍّ لحكمتها ومستدع لطلبها وإدامتها ،
وذلك كالنكاح فإنه مشروع للتناسل على القصد الأول ، ويليه طلب السكن والتزاوج ،
والتعاون على المصالح الدنيوية والأخروية : من الاستمتاع بالحلال والنظر إلى ما
خلق الله من المحاسن في النساء ، ونحو ذلك .
وهذه
المقاصد كلها مؤكدة للمقصد الأول الأصلي الذي هو حصول النسل المقصود شرعا ، وإذا
كانت مؤكدة لقصد الشارع الأصلي ومقوية له فهي إذن مقصودة شرعا وقصدها صحيح موافق
لقصد الشارع ، كما صرح القرافي ([366]).
الثاني
: ما يقتضي زوال المقاصد الأصلية عينا : كنكاح التحليل والمتعة فإنهما يقتضيان
زوال المقصود الأصلي من النكاح الذي هو النسل ودوام النكاح وبقاؤه ؛ لأن كلا من
الناكح للتحليل والناكح للمتعة لا يريد نسلا ، وإنما يريد الاستمتاع فقط . وهذا
المقصد التابع لا يجوز قصده ، لكونه يضاد قصد الشارع . ولهذا حرم نكاح المتعة ،
ونكاح التحليل ([367]).
الثالث
: ما لا يقتضي تأكيدا ولا ربطا ، ولكنه لا يقتضي رفع وزوال المقاصد الأصلية عينا .
وذلك
كنكاح القاصد لإضرار الزوجة ، أو لأخذ مالها أو نحو ذلك . فهذا لا يقتضي تأكيدا
للنكاح ، بل هو مخالف لقصد الشارع في شرع النكاح ، ولكنه لا يقتضي المخالفة عينا ؛
إذ لا يلزم من قصد إضرار الزوجة وقوع الضرر بالفعل ، ولا من وقوع الضرر وقوع
الطلاق ؛ لجواز الصلح أو الحكم على الزوج بما يرفع الضرر عن الزوجة .
وهذا القسم متردد بين القسمين السابقين : فيحتمل إلحاقه
بالقسم الأول من حيث كونه لا يضاد قصد الشارع ولا يقتضي مخالفته عينا ؛ إذ لا يؤدي
بالضرورة إلى رفع ما قصد الشارع وضعه ، وهو
بهذا يكون مقصودا للشارع تبعا للقصد الأول الأصلي فيجوز ([368]).
وقال
الشاطبي : " هذا النوع يصح في العادات دون العبادات ، ويمكن التمثيل له في
العبادات بالصيام بقصد الصحة ، أو بقصد توفير النفقة ، فلا يصح حينئذ "([369]).
ويحتمل لحوقه بالقسم الثاني من جهة كونه لا
يقتضي تأكيد المقصد الأصلي ، وقصد الشارع له ، وبهذا يكون مخالفا لقصد الشارع فلا
يجوز قصده .
وعليه فالمقاصد التابعة المؤكدة للمقاصد الأصلية قد تكون
سابقة أو لاحقة أو مقارنة .
فإن
كانت سابقة فهي بمثابة الشرط أو السبب في حصول المقصد الأصلي : كالطهارة للصلاة ،
فإنها مقصودة تبعا للصلاة ، وهي سابقة عليها وشرط لها ، فهي مطلوبة لهذا .
وإن
كانت مقارنة كأركان الصلاة ، فإنها تكون مطلوبة ومقصودة باعتبارها جزء من أجزائها
؛ لأن طلب الصلاة تقتضي طلب كل ركن من أركانها .
وإن
كانت لاحقة : كالنكاح من أجل النسل وهو مقصد أول ، ويليه الاستمتاع والتعاون على
المصالح الدنيوية والأخروية ، والنفقة والسكنى والتعهد بالأولاد ونحو ذلك ؛ فإنها
تكون مطلوبة لكونها كالثمرة للمقصد الأصلي .
الفرق بين المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة .
من
كل ما تقدم يظهر الفارق بين المقاصد الأصلية والمقاصد التبعية فيما يأتي :
1-
المقاصد الأصلية يكون مقصودها ومصلحتها أعظم من المقاصد التابعة .
2-
المقاصد الأصلية تكون مقصودة لنفسها أصالة ، بينما المقاصد التبعية فهي وإن كانت
مطلوبة في الجملة إلا أنها تقصد تبعا للأصلية فهي تالية لها في الأهمية .
3-
المقاصد الأصلية هي الأصل ، بينما المقاصد التابعة خادمة ومكملة لها ومقوية
لحكمتها ، وداعية إليها ، وسببا في حصول الرغبة فيها ما دام لم يخالف مقصودها ،
فالمقاصد الأصلية متوقفة عليها من هذه الجهة ، وهذا يظهر مدى أهمية المقاصد
التابعة ومدى الحاجة إليها ، فالله تعالى خلق للإنسان شهوة لتحركه إلى اكتساب
أسباب النكاح الموصل إلى النسل الذي هو المقصد الأصلي ([370]).
4- المقاصد الأصلية حكمها الوجوب ؛ لأنها راجعة
إلى حفظ الضروريات الخمس ، وهي واجبة على التعيين ، أو هي راجعة إلى القيام
بالمصالح العامة ، فتكون واجبة على الكفاية .
بينما
المقاصد التابعة حكمها في الأصل الإباحة ؛ لأن حصول حظوظ النفس لا يجب تحصيله إلا
إذا كان وسيلة إلى غيره فيأخذ حكم ما يوصل إليه ، وهو المقصد الأصلي من الوجوب
وغيره فقد تكون واجبة إذا وصلت إلى واجب . وقد تكون ممنوعة إذا وصلت إلى محرم أو
أدت إلى زوال المقصد الأصلي .
5-
المقاصد الأصلية مؤكد طلبها من الشارع ؛ لأنه لو لم يؤكد طلبها لتساهل الناس بها ،
ولأدّى ذلك إلى ضياع المصالح العامة وخراب العالم .
بينما
المقاصد التابعة لم يؤكد طلبها ؛ لأن الناس مجبولون على نيل حظوظهم فاكتفى الشارع
بالدافع الطبعي عن الأمر الشرعي المؤكد لها ، إلا إذا تعلق بها حق الغير فيؤكد
طلبها ؛ لأن ذلك مظنة إهمال الناس لها وعدم اعتنائهم بها . فالداعي إليه ليس قويا
فاحتاج إلى التأكيد لأجل هذا([371]).
خامسا : تقسيم المصالح باعتبار تعلقها بالآخرة
هناك من ذهب إلى تقسيم المصالح باعتبار تعلقها بالآخرة إلى
نوعين : دنيوية وأخروية .
الأول
: المصالح الأخروية ، وهي التي تكفلت بها العقائد والعبادات . وقسمها الشاطبي إلى
: 1- محضة : كنعيم أهل الجنة . 2- ممتزجة أي غير محضة : كالأعمال الصالحة ([372]).
والثاني
: المصالح الدنيوية ، وهي التي تكفلت بها المعاملات : كالأكل والشرب واللبس
والسكنى والركوب .
والحقيقة
- كما يرى د. محمد سعيد البوطي – أنه لا داعي إلى تقسيم المصالح بهذا الاعتبار ؛
لأن جميع ما في الشريعة الإسلامية من عقائد وعبادات ومعاملات متكفل بتحقيق كل
مصالح العباد بقسميها الدنيوي والأخروي : فالعقائد والعبادات والمعاملات كلها
حلقات في سلسلة واحدة تؤدي بمجموعها عملا واحدا في حياة الإنسان وتنتهي به إلى
غاية لا تختلف :
فالمسلم
المتمسك بعقيدة إسلامية سليمة تجعله يوقن بوجود الله تعالى ، وبأنه الذي كلف الناس
بالشريعة ، وأنه خلق الناس ليعبدوه ، وذلك يعينه بل يعتبر أعظم عون له في تطبيق
أحكام الشريعة في العبادات والمعاملات سواء أظهر له جانب المصلحة فيها أم لا .
كذلك
المتمسك بالعبادات ، المكثر من الطاعات والأذكار ينال على ذلك في الآخرة ثواب الله
ومرضاته وفي الدنيا تيسير السبيل أمامه بسببها إلى مراعاة الأحكام المشروعة لتحقيق
مصالحه الدنيوية .
كذلك
المتمسك بأحكام الدين في المعاملات مع الناس من حيث إنها أوامر إلهية كلف
بالائتمار ينال جزاء ذلك في الدنيا بالوصول إلى مصالحه ، وفي الآخرة بلوغ مرضاة
الله وجناته .
غير
أن المعاملات وتوابعها تعالج المصالح الدنيوية بشكل مباشر في حين أن العقائد
والعبادات تعالج المصالح الدنيوية بشكل غير مباشر فهي تيسير السبيل للأخذ بأحكام
المعاملات وتوابعها . وربما هذا هو السبب في تقسيم المصالح إلى دنيوية وأخروية ؛
لأن العقائد والعبادات لا يظهر لهم فيها الوصف المناسب ، بخلاف المعاملات ، فهي في
معظمها قائمة على أوصاف واضحة مناسبة ([373]).
سادسا : تقسيم المصالح باعتبار شهادة الشارع لها بالاعتبار
تنقسم
المصالح بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام :
الأول
: المصالح المعتبرة :
وهي
التي اعتبرها الشارع بنص أو إجماع بأن أورد الحكم على وفقها ، مثل : جميع المصالح
الضرورية .
الثاني
: المصالح الملغاة :
وهي
التي لم يعتبرها الشارع بأن شهد لها بالبطلان والإلغاء ، بأن أورد الحكم على عكسها
. مثالها : فتوى الإمام يحيى بن يحيى لأحد ملوك المغاربة حين واقع أهله في نهار
رمضان بأن يصوم شهرين متتابعين ، مخالفا بذلك نص حديث الأعرابي الذي أُوجب العتق
ابتداء أو على التخيير بين الثلاثة .
الثالث
: المصالح المرسلة :
وهي
التي سكت عنها الشارع ، فلم يقم دليل من الشارع باعتبارها ولا بإلغائها ، وترك ذلك
لاجتهاد المجتهد .
وذلك
مثل : جمع المصحف ، والأذان الأول يوم الجمعة ، ونحوهما .
والأول
من المصالح حجة باتفاق . والثاني منها ليست بحجة باتفاق . والثالث : قيل ليس بحجة
. وقيل : حجة ، وهو الراجح إذا توافرت شروطها .
مناط أحكام الشرعية : المعاني والحكم وليس الأسماء والأشكال .
من
المعلوم أن مقصد الشريعة الإسلامية من أحكامها كلها ، هو : إثبات أجناس الأحكام -
من وجوب وحرمة وصحة وفساد وبطلان ، وغرم ، وعقوبة ، وجزاء – لأحوال وأوصاف وأفعال باعتبار ما تشتمل عليه من
المعاني والحكم المنتجة صلاحا ونفعا ، وليس باعتبار أسمائها وأشكالها
الصورية غير المستوفية للمعاني الشرعية .
ولذلك
لا يصح القول بتحريم ما يسميه بعض الناس خنزير البحر بناء على أنه خنزير يحرم أكله
، فالتحريم هنا بناء على التسمية فقط . ولا يصح القول بتحليل الفائدة الناتجة عن
الوديعة البنكية بعد تسميتها عوائد أو أرباح .
كذلك
لا يصح القول بتحريم نكاح امرأة زوّجها إياه وليها بمهر ، وزوّج هو ذلك الولي
امرأة هو وليها بمهر مساوٍ لمهر الأخرى أو غير مساوٍ باعتقاد أن هذا هو نكاح
الشغار المنهي عنه ؛ لأنه وإن كان شكله الظاهر كشكل الشغار إلا أنه يختلف عنه في
المعنى والوصف الذي لأجله أبطلت الشريعة نكاح « الشغار »([374])
وهو أن كلا منهما جعل نكاح إحداهما مشروطا بنكاح الأخرى من غير مهر مسمى ، وهذا
غير متحقق في الصورة الموجودة ؛ لأنها جاءت هكذا مصادفة من غير شرط .
وإن
كان على الفقيه أن ينظر إلى الأسماء الموضوعة للمسمى أصالة أيام التشريع ، وإلى
الأشكال المنظور إليها عند التشريع من حيث إنهما طريق لمعرفة الوصف المرعي للشارع
من شرع الحكم .
ولهذا
لا يصح الإفتاء بقتل المشعوذ بدعوى أنه يسمى سحارا ؛ لأن السحر الذي ناط الشارع به
حكم القتل ليس هذا ، وإنما هو السحر الذي يجعل صاحبه يعبد الجن ويتجنب التوحيد
والإيمان بالرسل والأديان . وليس السحر الذي يفهمه الناس اليوم من ترسيم حروف
وطلسمات ، ولذلك ينبغي على الفقيه إذا سئل عن السحر أن يبين أولا صفته وحقيقته قبل
أن يقول فيه قولا ، ولا يفتي بمجرد ذكر اسم السحر بقتل الساحر وعدم قبول توبته .
كذلك
إذا سئل عن النكاح العرفي فلا بد أن يتبين أنواعه وصوره ، ثم يقول فيه قوله . وإذا
سئل عن الصوفية مثلا – فلا بد أن يبين معنى الصوفية وأصلها وصورها ثم يقول ما يقول
بعد ذلك .
كذلك
أخطأ بعض العلماء حينما ظهرت الحبوب اليمانية التي نسميها الآن « قهوة » في أوائل
القرن العاشر ، وأفتى بحرمتها ، بناء على أنهم سموها القهوة ، وهو اسم الخمر في
اللغة العربية - سميت بذلك ؛ لأنها تقهى : أي تذهب بلذة الطعام – مع أن تسمية تلك
الحبوب قهوة اسم محرف من اسم غير عربي ، هو « كُفَّا » أو « كافي » بالفرنسية ،
ومنها « النسكافيه » المعروف الآن .
لذلك
حرص الفقهاء على التفرقة بين الأوصاف المقارنة غير المقصودة للشارع ، ككون الحرابة
خارج المصر ، فإن هذا أمر غالب ، لكنه غير مقصود للشارع ، إنما مقصود الشارع هو
الإخافة ، لذلك اعتبر الإمام مالك الحرابة ويقام الحد على المحارب حتى وإن كان
داخل المدينة ما دام حاملا للسلاح ، ويخيف أهل المدينة ، خلافا لغيره الذي اشترط
في الحرابة أن تكون خارج المصر .
ويلاحظ
: أن الأسماء إنما تعتبر باعتبار مطابقتها للمعاني الملحوظة شرعا في مسمياتها ،
فإن تغير المسمى لم يكن لوجود الاسم اعتبار ، لذلك قال المالكية : إن صيغ التبرعات
قد يستعمل بعضها في بعض ... فالعطايا المشروط فيها تصرف المعطي فيها إلى موته تؤول
إلى الوصية ، وإن سموها « عُمْرَى » وهي من عقود التمليك ، وهي أن يقول لأخر : هذه
الدار لك عُمْرُك ، فإذا متَّ رجعتْ إليّ ، أو يقول : هي لك عُمْري ، فإذا متُّ
رجعت إلى أهلي .
وكذلك
لو قال ولي المرأة : وهبت فلانة إليك بمهر كذا ، كانت تلك صيغة نكاح ولو سماها هبة
.
وعلى
هذا فالتسمية لا تكون مناط الأحكام ، فكما أنها لا تؤثر في تحريم الحلال ، لا تؤثر
في تحليل الحرام ، فلا يجوز شرب الخمر وإن سميت بغير اسمها ، ولكن الأسماء تدل على
مسمى ذي أوصاف ، والأوصاف هي مناط الأحكام ، فالمنظور إليه هو الأوصاف خاصة .
ولذلك
نهى النبي ﷺ عن الانتباذ في الحنتم والجر المزفت – أي المطلي بالزفت - ؛ لأنه يسرع
إليها الاختمار ، وليس لمجرد التسمية ([375]).
سد الذرائع وعلاقتها بالمقاصد
وقبل
الكلام عن بيان علاقة سد الذرائع بالمقاصد . ينبغي أن تعرف الذرائع ، ونبين حجيتها
وأقسامها ، فنقول :
أولا : تعريفها :
سد
الذرائع : مركب إضافي من مضاف ومضاف إليه ، فتعريفها يتوقف على معرفة كل منهما .
فالسد
في اللغة : الإغلاق ، قال في اللسان : السد : إغلاق الخلل ، وردم الثلم – أي الشق
- ([376]).
والذرائع : جمع ذريعة : أي الوسيلة ، فعلى هذا يكون معناها لغة : إغلاق الوسائل([377]).
والذريعة
في الاصطلاح : هي الوسيلة إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدة ، أو الشيء المشروع
المشتمل على مصلحة .
فالنظر
إلى عورة الأجنبية ذريعة ؛ لأنه يوصل إلى ممنوع هو الزنا . والسعي إلى المسجد
لأداء صلاة الجمعة ذريعة ؛ لأنه يوصل إلى مشروع وواجب هو صلاة الجمعة .
وعلى
هذا فالذرائع منها ما يُسدّ ، ومنها ما يُفتح .
فسد
الذرائع معناه : « دفعها ومنعها والحيلولة دونها » أو « هي حسم مادة وسائل الفساد
دفعا له » كما صرح القرافي ([378]).
وقيل
: هي « منع الجائز لئلا يتوصل به إلى الممنوع » كما صرح الشاطبي([379]).
وفتح
الذرائع معناه : « الحث على فعلها حتى يتمكن من فعل ما توصل إليه »
حكم الذرائع :
حكم
الذرائع بوجه عام : أنها تأخذ حكم ما توصل إليه : فإن وصلت إلى حلال كانت الوسيلة
فرضا أو مندوبا أو مباحا . وإن وصلت إلى حرام كانت الوسيلة حراما ، غير أن حكم
الوسائل أخفض رتبة من حكم المقاصد ، كما صرح القرافي .
حجية سد الذرائع :
يعتبر
موضوع الذرائع والعمل على سدها أو فتحها أصلا من الأصول التي اعتنى بها علماء
الأصول مالكية وحنابلة ، فقد نصوا عليها صراحة في كتبهم وجعلوها عنوانا مستقلا
بذاته .
أما
الشافعية والحنفية فلم يجعلوها أصلا مستقلا بذاته ، بل نقل عنهم المخالفة ، كما صرح
الباجي([380])
والفتوحي([381])
، لكن المتتبع لكتبهم يجد أنهم معتبرون لها قائلون بها في ثنايا مباحث القياس
والاستحسان الحنفي ، وكل ما نقوله هنا مقرر عندهم ، غاية الأمر أنهم لم يجعلوها
عنوانا مستقلا بذاته في كتبهم ، كما أنهم اختلفوا في بعض أقسامها ، واتفقوا في البعض
الآخر .
قال
القرافي : " مالك لم ينفرد بذلك ، بل كل أحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية
بها إلا من حيث زيادتهم فيها "([382]).
وقال
الشاطبي : " .. فقد ظهر أن قاعدة الذرائع
متفق على اعتبارها في الجملة وأن الخلاف في أمر آخر "([383]).
وعليه
فلا مجال – في الحقيقة - لإنكار الذرائع لقيام الأدلة الكثيرة على اعتبارها حجة
يعتمد عليها في استنباط الأحكام .
من هذه الأدلة ما
يأتي من الكتاب :
1- قوله تعالى : ﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله
فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾([384])
فالله
تعالى حرم سب آلهة المشركين – مع كون السب جائزا ، غيظا وحمية لله تعالى ، وإهانة
لآلهتهم ؛ لأنها باطل في باطل – وما ذلك إلا لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى .
فكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم ([385]).
2- ومنه قوله تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا
تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا ﴾([386]).
فالله
تعالى حرم على أمة محمد ﷺ أن يقولوا للنبي ﷺ : " راعنا " مع أنهم يقصدون
بهذا اللفظ المعنى الجائز ، وهو " انظرنا ". وما ذلك إلا لكونه ذريعة
لأن يخاطب اليهود بهذا اللفظ النبي ﷺ ويقصدون فاعلا من الرعونة ، وهو من السب
والشتم .
3-
وقوله تعالى : ﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان
فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في
الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ﴾([387])
.
فالله
تعالى حرم الخمر لأنها ذريعة ووسيلة إلى المحرم الذي هو العداوة والبغضاء بين
الأمة المحمدية . وذلك سدا لباب الذريعة . ثم بالغ الشارع في سد الذريعة ، فحرم
القطرة منها حتى لا تكون ذريعة إلى الحسوة ، وحرم إمساكها للتخليل حتى لا يكون
ذريعة لإمساكها للشرب . هذا بالإضافة إلى ما فيها من مفسدة زوال العقل الذي يعتبر
المحافظة عليه من الضروريات الخمس ، كما سبق .
4-
قوله تعالى : ﴿ ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يُخفين من زينتهن ﴾([388])
. فنهاهن الله تعالى عن الضرب بالأرجل – وإن كان جائزا في نفسه - لأنه ذريعة إلى
إثارة دواعي الشهوة عند الرجال عند سماعهم صوت الخلخال . وكذا العطر النفاذ ، ونحو
ذلك .
من السنة :
قوله
ﷺ : « من الكبائر شتَم الرجل لوالديه » قالوا : يا رسول الله ، وهل يشتِم الرجل والديه
؟ قال : « نعم ، يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه »([389]).
فالرسول
ﷺ جعل سب الوالدين من أكبر الكبائر ، فيكون محرما ، فكذلك ما يوصل إليه ، وهو أن
يسب الرجل أبا الرجل أو أمه ، ينبغي أن يأخذ حكمه سدا لباب الذريعة .
ومنها
قوله ﷺ : « لا يخطب أحدكم خطبة أخيه ، ولا يستام على سومه » ؛ لأنه وسيلة إلى
التباغض . ونهيه ﷺ الدائن عن أن يأخذ هدية من المدين ؛ لأنه ذريعة للربا .
إلى
غير ذلك من الأدلة التي تدل على حجية سد الذرائع . وقد ذكر العلامة ابن القيم تسعة
وتسعين دليلا ، واقتصر عليها تيمنا بأسماء الله الحسنى . ثم قال بعدها : "
وباب سد الذرائع أحد أرباع التكاليف ، فإنه أمر ونهي . والأمر نوعان : مقصود لنفسه
. والثاني : وسيلة إلى المقصود . والنهي نوعان : أحدهما : ما يكون مفسدة في نفسه .
والثاني : وسيلة إلى المفسدة . فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع
الدين "([390]).
فما بالك إذا ضممنا إلى ذلك فتح الذرائع : تصير الذرائع نصف الدين .
أقسام الذرائع
قد
قسم القرافي الذرائع « ذرائع الفساد » إلى ثلاثة أقسام :
1-
ذريعة مجمع على عدم سدها : مثل زراعة العنب خشية ما يعتصر منه من الخمر ، ومثل
التجاور في البيوت خشية الزنا .
2-
ذريعة مجمع على سدها : كحفر البئر في طريق المار دون سياج .
3-
وذريعة مختلف فيها : مثل بيوع الآجال ([391]).
وقد
زاد ابن القيم هذا الموضوع بسطا حين قسم الذريعة إلى أربعة أقسام :
الأول
: ذريعة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة : كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر ،
وكالقذف المفضي إلى مفسدة الفرية ، والزنا المفضي إلى اختلاط الأنساب وفساد الفراش
. ثم بين أن الشريعة جاءت بالمنع من هذا القسم كراهة أو تحريما بحسب درجاته في
المفسدة .
والثاني
: ذريعة موضوعة للمباح ، قصد بها التوسل إلى المفسدة . وذلك كمن تعقد النكاح قاصدا
به التحليل . أو يعقد البيع قاصدا به الربا .
والثالث
: ذريعة موضوعة للمباح لم يقصد بها إلى التوسل إلى المفسدة ، لكنها مفضية إليها
غالبا ، ومفسدتها أرجح من مصلحتها . وذلك كالصلاة في أوقات النهي ، ومسبة آلهة
المشركين بين ظهرانيهم ، وتزيّن المتوفى عنها في زمن عدتها .
وهذا القسمان ممنوعان عنده ، وإن ذكر : هل الشريعة جاءت
بإباحتهما أو بالمنع منهما .
والرابع : ذريعة موضوعة للمباح ، وقد أفضى إلى المفسدة ،
ومصلحتها أرجح من مفسدتها : كالنظر إلى المخطوبة ، والمشهود عليها، وكلمة حق عند
سلطان جائز، ونحو ذلك .
ثم
قال : " إن هذا القسم قد جاءت الشريعة بإباحته أو استحبابه أو إيجابه على حسب
درجاته في المصلحة "([392]).
نخلص من هذا كله إلى
أن الذرائع تنقسم أربعة أقسام :
1-
ذريعة تؤدي إلى المفسدة قطعا : كحفر بئر في ميدان عام في طريق مظلم دون سياج بحيث
يقع فيه المار بلا شك . فإن هذا الفعل محرم بإجماع الفقهاء ، ويحاسب الحافر شرعا على ما ترتب من إضرار نتيجة حفره . هذا إذا كان
الحفر في مكان غير مأذون فيه .
فإن
كان الحفر في مكان مأذون فيه ، كمن حفر في منزله بجوار حائط جاره ، بحيث يترتب
عليه هدم جدار جاره بلا شك . فهذا الفعل مأذون فيه ، وفيه مصلحة للمالك ، وفيه
مضرة للجار ، وهو هدم جدار جاره .
فمن
ذهب إلى أن الحفر الذي حدث مأذون فيه ، وأنه حدث في ملكه ، ولا يجمع بين إذن وضمان
؛ فقد رأى أن الحافر لا يضمن شيئا .
ومن
نظر إلى أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح فقد ذهب إلى تضمين الحافر قيمة جدار
جاره نتيجة هذا الحفر . وهذا هو الراجح .
2-
ذريعة يكون توصلها إلى المفسدة في غالب الظن : كبيع السلاح وقت الحرب ، وبيع العنب
للخمار . فإن هذا البيع محرم سدا للذريعة . وإلى هذا ذهب الإمام مالك والإمام أحمد
، وإن كان كلام الشاطبي يفيد أنه مجمع على تحريمه .
3-
ذريعة يكون توصلها إلى المفسدة كثيرا ، ولكن الكثرة لم تبلغ مبلغ الظن الغالب
للمفسدة : كالبيوع التي تتخذ ذريعة للربا ، مثل : بيوع الآجال أو بيع العينة .
وحكم
هذا النوع مختلف فيه :
أ-
يبطل التصرف ويحرم البيع سدا للذريعة عملا بالأحوط . وبه قال مالك والإمام أحمد
وجمهور الحنفية ، وهو الراجح ؛ لأنه يوافق رأي عائشة .
ب-
لا يبطل التصرف « العقد » ولا يحرم الفعل . وإلى هذا ذهب الشافعي وجمهور أصحابه ؛
ترجيحا لجانب الإذن الأصلي على جانب الفساد الطارئ ؛ لأن الفساد ليس بغالب ، فلم
يترجح على المصلحة ، واستدلالا بفعل زيد بن أرقام .
4-
ذريعة يكون توصلها إلى المفسدة نادرا ، وإلى المصلحة كثيرا وأرجح : كالنظر إلى
المخطوبة ، وكزراعة العنب ، ولو اتخذ بعد ذلك خمرا .
وحكم
هذا النوع أنه حلال لا شك فيه ؛ إذ هو باق على أصل الإذن العام . والمفسدة
المحتملة نادرة ([393]).
أ- علاقة المقاصد بسد الذرائع
إن
من أكثر الأدلة التصاقا وارتباطا بالمقاصد سد الذرائع . وبيان ذلك ما يلي :
1-
إن سد الذرائع في نفسه يعتبر مقصدا من مقاصد الشريعة الإسلامية . وقد دلت على ذلك
النصوص الكثيرة على اعتباره ومراعاته ، وقد ذكرنا بعضها سلفا .
يقول الشاطبي : " وسد الذرائع مطلوب مشروع ، وهو أصل
من الأصول القطعية "([394]).
2-
أن في سد الذرائع حماية لمقاصد الشريعة ، وتوثيقا للأصل العام الذي قامت عليه
الشريعة من جلب المصالح ودرء المفاسد ، فإن من أعظم مقاصد الشريعة منع الفساد وفي
منع أسبابه منع له .
فالأمر
المباح قد يؤدي الأخذ به إلى تفويت مقصد الشارع . مع أن المحافظة على مقصود الشارع
أمر مطلوب لكونه أعظم مصلحة وأقوى أثرا .
فلو
تركت وسائل الفساد – حتى ولو كانت مباحة – مفتوحة ، لكان حصول الفساد أمرا لا مناص
منه . لهذا حرمها الشارع سدا للذريعة .
3-
أن سد الذرائع يرجع إلى اعتبار مآل الأفعال . واعتبار مآل الأفعال من المقاصد المهمة في الشريعة الإسلامية . وذلك أن المجتهد ينظر
إلى الأفعال وما تنتهي في جملتها إليه ، فإن كانت تنحو نحو المصالح التي هي
المقاصد والغايات ؛ كانت مطلوبة بمقدار يناسب طلب هذه المقاصد . وإن كانت مآلاتها
تنحو نحو المفاسد ، فإنها تكون محرمة بما يتناسب مع تحريم هذه المقاصد .
وهذا
الأخير هو سد الذرائع فالمجتهد لا يستطيع أن يسد الذريعة ، حتى يعرف مآلها وثمرتها
، فحينئذ يحكم عليها بما يناسبها ([395]).
قال
الشاطبي : " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو
مخالفة . وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين
بالإقدام والإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل ، مشروعا لمصلحة فيه
تستجلب ، أو لمفسدة تدرأ ... "([396]).
ب- علاقة المقاصد
بفتح الذرائع
كما
ثبت أن لسد الذرائع علاقة بالمقاصد ، فكذلك فتح الذرائع له علاقة بمقاصد الشريعة ؛
لأن الذريعة كما يجب سدها إذا وصلت إلى محرم ، يجب فتحها إذا وصلت إلى واجب .
قال القرافي : " اعلم ، أن الذريعة كما يجب سدها يجب
فتحها ويكره ويندب ويباح ، فإن الذرائع هي الوسائل ، فكما أن
وسيلة المحرم محرمة ، فكذلك وسيلة الواجب واجبة : كالمشي للجمعة والحج ".
ثم
قال : " وموارد الأحكام على قسمين :
(
المقاصد ) : وهي الطرق المفضية للمصالح والمفاسد في أنفسها .
و(
وسائل ) : وهي الطرق المفضية إلى المقاصد . وحكمها كحكم ما أفضت إليه من تحريم أو
تحليل "([397]).
وعليه
فالذرائع التي توصل إلى المصالح تفتح وتأخذ حكم ما توصل إليه . ويدخل فيها مقدمة
الواجب « ما لا يتم به إلا به فهو واجب » أو قاعدة « ما لا يتم المأمور إلا به فهو
مأمور وواجب » ([398]).
الرخصة وعلاقتها بالمقاصد
الرخصة
: عرفت في اللغة : بمعنى التيسير والتسهيل . يقال : رخص في السعر إذا سهل فيه .
وفي
الاصطلاح : هي ما شرع من الأحكام لعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع
الاقتصار فيه على موضع الحاجة ([399]).
وعلى
هذا فالرخصة تغير الفعل من صعوبة إلى سهولة لعذر عرض لفاعله وضرورة اقتضت ذلك ...([400]).
فالرخصة
إذن مستمدة من قاعدة « رفع الحرج » ، كما أن العزيمة راجعة إلى أصل التكليف ،
وكلاهما أصل كلي ([401]).
يقول
ابن عاشور : " غير أني رأيت الفقهاء لا يمثلون إلا بالرخصة العارضة للأفراد
في أحوال الاضطرار ، ونحن إذا تأملنا الرخصة
فوجدناها ترجع إلى عروض المشقة والضرورة ، صح لنا أن ننظر إلى عموم الضرورة
وخصوصها "([402]).
ولذلك
قسمها إلى ثلاثة أقسام :
1-
رخصة لضرورة عامة مطردة كانت سببَ تشريع عام في أنواع من التشريعات مستثناة من
أصول كان شأنها المنع ، مثل : السلم ، والمساقاة ، ونحوهما . فهذه مشروعة باطراد ،
وكان ما تشتمل عليه من الضرر وتوقع ضياع المال مقتضيا منعها ، لو لا أن حاجات
الأمة داعية إليها . فدخلت هذه الرخصة في قسم المقاصد الحاجية ، فكان حكمها حكم
المباح باطراد ، كما صرح الشاطبي ([403]).
2-
رخصة لضرورة عامة مؤقتة : وذلك بأن يفرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها
يستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي : كسلامة الأمة وبقاء قوتها . وقد
مثّل لهذا النوع : بالكراء المؤبد الذي جرت به فتوى علماء الأندلس كابن سراج وابن
منظور في أواخر القرن التاسع في أرض الوقف حين زهد الناس في كرائها للزرع بسبب ما
تحتاجه من قوة الخدمة ووفر المصاريف مع قِصَر المدة التي تكترى أرض الوقف لمثلها .
فلهذا
افتيا بكرائها على التأبيد ، ورأيا أن التأبيد لا غرر فيه ؛ لأنها باقية غير زائلة
، وفي هذا إبقاء على قوة الأمة وعدم ضياع أرض الوقف .
وقد
تبعهما على ذلك أهل مصر في القرن العاشر بفتوى ناصر الدين اللقاني في كراء إحكار
الأوقاف على التأبيد ، وجرى عليه العمل في المغرب ، وتونس .
وهذا
النوع أجدر بالاعتبار من الرخصة التي تكون لضرورة خاصة ، وهي النوع الثالث .
3-
رخصة لضرورات خاصة مؤقتة : جاء بها القرآن الكريم والسنة المطهرة لقوله تعالى : ﴿
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ﴾([404])
وهذا النوع قد اقتصر عليه الفقهاء في التمثيل للرخصة : كأكل الميتة وشرب الخمر
للضرورة .
هذا
وقد يطرأ من الضرورات ما هو أشد من ذلك . فالواجب مراعاته وإعطاؤه ما يناسبه من
الأحكام .
ولذلك
رأى العز بن عبد السلام : أنه لو عمَّ الحرامُ الأرضَ بحيث لا يوجد فيها حلال جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجات ، ولا
يقف تحليل ذلك على الضرورات ؛ لأنه لو توقف عليها ، لأدى إلى ضعف العباد
واستيلاء الكفار على بلاد الإسلام ، ولا نقطع الناس عن الحرف والصنائع التي تقوم
بالمصالح ... ولا يُتَبسَّطُ في هذه الأموال كما يُتبسَّط في المال الحلال ، بل
يُقتصَر في ذلك على ما تمس الحاجة إليه ... ولو دعت ضرورة إلى غصب أموال الناس
لخوف هلاك الجوع أو الحر أو البرد لجاز ذلك . وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة ،
فإحياء النفوس أولى " ([405]).
ولو
جُهِلَ المستحقون للمال ، بحيث يتوقع معرفتهم في المستقبل ؛ جاز تناول ذلك قبل
تمكن الناس من معرفتهم ؛ لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة ([406]).
لهذا كانت الرخصة متصلة اتصالا وثيقا بالمقاصد الضرورية والحاجية .
علاقة الفطرة بالمقاصد الشرعية.
مما
لا شك فيه : أن للفطرة السليمة علاقة وثيقة بالمقاصد الشرعية ؛ لأن الإسلام دين
الفطرة .
والفطرة
: هي الخِلقَة ، أي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق . ففطرة الإنسان هي ما فُطِر
– أي خُلِق – عليه الإنسانُ ظاهرا وباطنا : أي جسدا وعقلا.
فمشي
الإنسان برجليه فطرة جسدية ظاهرة ، فمحاولة أن يتناول شيئا برجليه من غير عذر خلاف
الفطرة . واستنتاج النتائج من مقدماتها فطرة عقلية باطنية .
وعليه
فالفطرة النفسية للإنسان : هي الحالة التي خلق الله عليها عقل النوع الإنساني
سالما من الاختلاط بالرعونات والعادات الفاسدة ، فهي المراد من قوله تعالى : ﴿ فطرت
الله التي فطر الناس عليها ﴾([407])
.
وهي
صالحة لصدور الفضائل عنها كما شهد به قوله تعالى : ﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن
تقويم . ثم رددناه أسفل سافلين . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير
ممنون ﴾([408])
.
فلا
شك أن المراد بالتقويم في الآية : تقويم العقل الذي هو مصدر العقائد الحقة
والأعمال الصالحة . وأن المراد برده أسفل سافلين : انتقال الناس إلى اكتساب
الرذائل بالعقائد الباطلة والأعمال الذميمة .
وليس
المراد من التقويم : تقويم الصورة ؛ لأن صورة الناس لم تتغير إلى ما هو أسفل .
ولأن الاستثناء ﴿ إلا الذين آمنوا .. ﴾ يمنع أن يكون المستثنى منه صورة ظاهرة ؛ إذ
ليس للمؤمنين الصالحين اختصاص بصورة جميلة .
ومعنى
وصف الإسلام بأنه فطرت الله : أن الأصول التي جاء بها الإسلام ، هي من الفطرة . ثم
تتبعها أصول وفروع هي من الفضائل الذائعة المقبولة ، فجاء بها الإسلام وحرّض عليها
؛ إذ هي من العادات الصالحة المتأصِّلة في البشر ، والناشئة عن مقاصد من الخير
سالمةٍ من الضرر ، فهي في الإصل راجعة إلى أصول الفطرة ، وإن كانت لو تُركت
الفطرةُ وشأنَها لما شهدت بها ولا بضدها ، فلما حصلت اختارتها الفطرة ، ولذلك
استقرت عند الفطرة واستحسنتها .
مثال
ذلك : الحياء والوقاحة ؛ فإنهما إذا لم يخرجا إلى حد الاستعمال لكانا في الإضرار
سواء في شهادة الفطرة ([409]).
لكن بعد الاستعمال صار الحياء محبوبا للناس ، فصار من العادات الصالحة ، وصلح لأن
ينشأ عنه منافع جمة في صلاح الذات وإصلاح العموم . فلذلك كان من شعائر الإسلام ؛
لذلك قال ﷺ للرجل الذي نهى أخاه عما تلبس به من الحياء : « دعه ، فإن الحياء من
الإيمان »([410])
، وفي حديث أبي هريرة : « الإيمان بضع سبعون والحياء شعبة من شعب الإيمان »([411])
.
كما
اتضح بعد الاستعمال أن الوقاحة مكروهة ، وقبيحة . من هذا يتضح أن الوجدان الإنساني
العقلي لا يدخل تحت الفطرة منه إلا الحقائق والاعتباريات ، ولا يدخل فيه الأوهام
والتخيلات ؛ لأنها ليست مما فطر عليه العقل ، ولكنها من العروض الكثيرة التي عرضت
على الفطرة حتى لازمت أصحابها ، وكان عروضها للفطرة بسبب سوء استعمال العقل ، وسوء
فهم الأسباب .
ولما كان الإسلام دين الفطرة ، فقد دعى إلى تقويمها والحفاظ
على أعمالها ، وإحياء ما اندرس منها أو اختلط بغيرها فالزواج والإرضاع من الفطرة ،
وله شواهد ظاهرة في الخلقة وحفظ الأنفس والأنساب من الفطرة ، والمخترعات من الفطرة
؛ لأنها متولدة عن التفكير ([412]).
وإذا
أنعمنا النظر في المقصد العام من التشريع الإسلامي نجد : أنه يساير حفظ الفطرة
ويحذر من خرقها واختلالها .
فما
يؤدي إلى خرق عظيم للفطرة ، فإنه يكون في الشرع ممنوعا أو محذورا . وما يؤدي إلى
حفظ كيانها يعد واجبا ، وما دون ذلك في الأول يكون مكروها ، وفي الثاني يكون
مطلوبا في الجملة ، وما لا يمسها – أي الفطرة – يكون مباحا ([413]).
فإذا
تعارضت مقتضيات الفطرة ، ولم يمكن الجمع بينها في العمل فإنه يُصار إلى ترجيح
أوْلاها وأبقاها على استقامة الفطرة . فلذلك كان قتل النفس أعظم الذنوب بعد الشرك
، وخصاء البشر من أعظم الجنايات ، كما لم يجز الانتفاع بالإنسان انتفاعا يفيت عينه
أو يعطلها ، كالتمثيل بالعبد ، بخلاف الانتفاع بالحيوانات ، وكان إتلاف الحيوان
بغير أكله ممنوعا .
لذا
كان القضاء بالعوائد والأعراف راجعا إلى معنى الفطرة ؛ لأن شرط العادة والعرف الذي
يُقْضى به أن لا ينافي الأحكام الشرعية ، فهي تدخل تحت حكم الإباحة ، والإباحة من
الفطرة إما لأنها لا تنافيها ، وحينئذ فالحصول عليها مرغوب لفطرت الناس . وإما لأن
الفطرة تناسبها ، وهو ظاهر ([414]).
من
هذا كله يتضح أن المقصد العام من التشريع : يساير حفظ الفطرة السليمة ، ويحذر من
خرقها واختلالها ؛ لأن من الفطرة الرفق والتيسير .
لذا
كره الشارع تغيير الفطرة إذا كان بدون مصلحة. أما إذا كان التغيير لمصلحة : كتقليم
الأظافر والختان ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ونحو ذلك ؛ لم يكن مكروها ، بل محبوبا
ومحمودا ([415]).
من مقاصد الشريعة : السماحة .
السماحة
: هي سهولة المعاملة في اعتدال ، فهي وسط بين التضييق والتساهل ، وهي راجعة إلى
معنى الاعتدال والعدل والتوسط .
وقد
اتفق العلماء على أن قوام الصفات الفاضلة هو الاعتدال : أي التوسط بين الإفراط
والتفريط اللذين يدعو إليهما الهوى الذي حذرنا الله تعالى منه بقوله : ﴿ ولا تتبع
الهوى فيضلك عن سبيل الله ﴾ ([416]).
والتوسط بين الإفراط والتفريط هو منبع الكمالات ، لذلك وصف الله تعالى الأمة
المحمدية به ، فقال : ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ﴾([417])
. والوسط هو العدل كما بينه ﷺ في رواية أبي سعيد الخدري في معنى الآية ([418]).
وبه فسر قوله تعالى : ﴿ قال أوسطهم ﴾([419])
أي أعلمهم وأعدلهم .
إذن
السماحة : هي السهولة المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه .
ومعنى
كونها محمودة : أنها لا تفضي إلى ضر أو فساد . ومنه قوله ﷺ : « رحم الله رجلا ، سمحا
إذا باع ، سمحا إذا اشترى ، سمحا إذا اقتضى »([420]).
ووصف
الإسلام بالسماحة ثبت بأدلة من الكتاب والسنة :
أما
الكتاب ، فمنه :
قوله
تعالى : ﴿ يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾ ﴿ البقرة : 185 ﴾.
وقوله
تعالى : ﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾ ﴿ الحج : 78 ﴾ .
وقوله
تعالى : ﴿ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ﴾([421])
.
وأما
السنة ، فمنها :
1-
ما رواه ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال : « أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة »([422])
أي أحب الأديان إلى الله دين الإسلام الذي هو الحنيفية السمحة ، فقد أثبت أن
السماحة هي وصف الإسلام .
2-
ومنها : « بعثت بالحنيفية السمحة » وهو وإن كان ضعيف السند بهذا اللفظ إلا أنه
تقوى معناه بما قبله .
3-
ومنها : أنه ﷺ قال لعليّ ومعاذ حين بعثهما إلى اليمن : « يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا
تنفرا » .
4-
ومنها : قوله ﷺ لأصحابه : « إنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين » .
5-
ومنها : ما روته عائشة : « كان رسول الله ﷺ ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما
لم يكن إثما »([423])
. والإثم ما دلت الشريعة على تحريمه .
فكانت
الشريعة الإسلامية بسماحتها أشد ملاءمة للنفوس ؛ لأن فيها إراحة النفوس لتمشيها مع الفطرة. والفطرة راجعة إلى الجبلة ، فهي
كائنة في النفوس سهلٌ عليها قبولها .
وهذا من مقتضيات عموم
الشريعة ودوامها ؛ لأن عمومها ودوامها يقتضي أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلا ، ولا
يكون كذلك إلا إذا انتفى عنها الإِعناتُ والشدة ، فكان للسماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة وطول دوامها ، فكانت من المقاصد
الشرعية المهمة ؛ لأنها يسر . واليسر من الفطرة . والفطرة من الإسلام ([424]).
مراتب الوازع : جبلية ، ودينية ، وسلطانية
مراتب
الوازع التي تزع النفوس وتزجرها عن التهاون بحدود الشريعة ثلاثة :
1- الوازع الجلبي :
أي الفطري .
وهذا كاف للشريعة من الإطالة في التشريع ؛ لأن النفس بطبعها
تتطلب المنافع والمصالح وتُنَفّر وتحذر من المفاسد ، وذلك مثل : منافع الاقتيات
واللباس وحفظ النسل والزوجات . فلا تجد في الشريعة وصايا للمحافظ
على هذه الأمور ؛ لأنه في الجبلة ، والفطرة كافية لحفظها .
كما
قلّت في الشريعة الوصاية بحفظ الأبناء ، إلا في أحوال عرضت للعرب من التفريط فيه
كما فعلوا في وأد البنات : ﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ،
إن قتلهم كان خطئا كبيرا ﴾ .
لهذا
كانت الشريعة تعمد إلى الأمور العظيمة التي تخشى أن لا يُغْني فيها الوازعُ الديني
الغَناءَ المطلوب ، فتصبغها بصبغة الأمور الجبلية : كما فعلت في تحريم الصهر لتلحق
الصهر بالنسب في جعل الوازع عن الزنا فيه كالجبلِّي . فألحقت أبوَيْ الزوجين
بالأبوين في قوله تعالى : ﴿ وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم
اللاتي دخلتم بهن ، فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين
من أصلابكم ﴾([425])
.
ولذلك
يقول الفخر الرازي : " من تزوج امرأة ، فلو لم يدخل على المرأة أبو الرجل
وابنُه ، ولم تدخل على الرجل أمُّ المرأة وابنتها ، لبقيت المرأةُ كالمحبوسة في
البيت ، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح "([426]).
ولو أذن في هذا الدخول ولم تحكم بالمحرمية ، فربما امتدت أعينُ البعض إلى البعض ،
وحصل الميلُ الغزيري . و لو جاز تزوج الزوج بأم امرأته أو ابنتها ؛ لحصل النفور
الشديد بينهن ، فحصول المحرمية يقطع الأطماع .
فالشارع
قصد قلب ذريعة الزنا المتوقِّع من شدة المخالطة إلى نفرة منه باستخدام الوازع
الجبلِّي بدلا عن الوازع الديني ؛ لتعذر سدِّ الذريعة في هذه المخالطة .
إذ
ليس من العسير قلب الوازع الديني إلى وازع جبلي ؛ لأن كثيرا من الجبليات هي في الأصل
كانت تعاليم دينية مثل : ستر العورة ، ومحرمية الأباء والأبناء ، بل كان أهل
الجاهلية يبيحون أشياء مع أن الناس يتنزهون عنها لمذمتها : كزواج الابن من زوجة
أبيه بعد موته ، ويطلقون عليه « نكاح المقت » ([427]).
كما
أن الإمام مالك بالغ في سد ذريعة الخمرة ، فقال : بنجاستها مع أن الشارع نهى عن
شربها ، وما ذلك إلا لتقوية الوازع الديني بالنهي عن شربها ، بالوازع الجبلي بجعل
النفوس تنفر منها بجعلها قذرة : كالنجاسات .
2- الوازع الديني :
وهو
وازع الإيمان الصحيح ، فالأوامر والنواهي ، بل ومعظم الوصايا الشرعية موكول
تنفيذها إلى دين المخاطبين . قال تعالى : ﴿ ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في
أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾([428])
.
3- الوازع السلطاني
:
وهذا
يكون عند ما يضعف الوازع الديني في زمن أو في قوم أو في أحوال يظن أن الدافع إلى
مخالفة الشرع أقوى على أكثر النفوس من الوازع الديني ، فيناط التنفيذ بالوازع
السلطاني ، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : " يزع الله بالسلطان ما لا
يزع بالقرآن ".
ولذلك
جعل ابن عطية إثبات الرشد لليتامى للقاضي ، وليس للأولياء لضعف الوازع الديني في
زمانه ، مع أن القرآن جعل ذلك للأولياء .
وقال
ابن العربي : " لا تُصَدّق المرأة في دعواها انقضاء عدتها في مدة أقل من خمسة
وأربعين يوما ، مع أن القرآن الكريم وكل ذلك إلى أمانتهن ، بقوله : ﴿ ولا يحل لهن
أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ﴾([429])
.
وعلى
هذا كل ما حصل الشك في أمانة رجل كان أو امرأة وكانت الشريعة أوكلت حقا إلى أمانته
، فإنه يصح أن يوكل تنفيذه إلى السلطان .
وعليه
فللفقهاء تعيين المواضع التي تُسلب فيها أمانةُ تنفيذِ أحكام الشريعة من المؤتَمَنين
عليها عند تحقق ضعف الوازع الديني أو رقة الديانة أو تفشِّي الجهالة .
وذلك
لأن معظم الخطاب القرآني جاء بضمائر الجمع ، فكان ذلك إيماء إلى إعداد الجماعة
للإشراف على تلك الحقوق . ولذلك أنشأ عمر بن الخطاب ديوان الحسبة ، وجعلها غير
ولاية القضاء ؛ لأن من الحقوق ما قصدت الشريعة حفظه ، وليس في تفريطه ضرر على شخص
معين حتى يقوم لدي القاضي .
من
هذا كله يتضح : أن الوازع الجبلي يعتبر تمهيدا للوازع الديني . والوازع السلطاني
تنفيذ للوازع الديني . فالوازع الديني ملحوظ في جميع أحوال الاعتماد على النوعين
الآخرين ؛ لأن الوازع الديني هو المهم في نظر الشريعة ، ويجب على ولاة الأمور
حراسته من الإهمال عن طريق الوازع السلطاني ([430]).
معنى الحرية في الإسلام ، ومدى حرية التصرف
لما
كانت الشريعة الإسلامية عامة ، ومن لوازم عمومها تحقيق المساواة بين بني البشر –
فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح – اقتضى
ذلك أن يكونوا سواء في حريتهم ، وفي تصرفاتهم ، وفي أنفسهم ، وأقوالهم ، وأفعالهم
ما دام ذلك يتفق مع ضوابط الشرع . لذا كان من مقاصد الشريعة الأصيلة :
« الحرية » .
فما
معنى الحرية ، وما أنواعه ؟ نقول وبالله التوفيق ومنه العون :
معنى الحرية :
جاء
لفظ ( الحرية ) في كلام العرب مطلقا على معنيين :
المعنى
الأول
: ما تقابل العبودية ، وهي أن يكون تصرف الشخص العاقل في شئونه بالأصالة تصرفا غير
متوقف على رضا أحد آخر .
وقلنا
: بالأصالة حتى يخرج نحو تصرف السفيه سفها ماليا في ماله ، وتصرف الزوجين فيما
يتعلق به حقوق الزوجية ؛ لأن ذلك كله يتوقف على رضا غير المتصرف ، لكن التوقف ليس
أصليا ، بل يجعل المتعاقدين ورضاهما ، فلا يسلبه هذا التوقف حريته ، بل هي باقية .
والحرية
بهذا المعنى تقابل العبودية وضدها . والعبودية ، هي : أن يكون المتصرف غير قادر
على التصرف أصالة إلا بإذن سيده .
وقد نشأت العبودية عن الغلبة والقوة في أزمنة تحكيم القوة ،
فكان من أجلّ مظاهرها الأسر . فالأسير في مدة الأسر : إما أن يقتل أو يبقى للخدمة
أو يباع للغير ويستفاد من ثمنه .
والمعنى
الثاني
: هي تمكن الشخص من التصرف في نفسه وشئونه ، كما يشاء دون معارض . وهذا ناشئ عن
المعنى الأول بطريقة المجاز في الاستعمال .
ويقابله : اعتقال التصرف ، وهو أن يجعل الشخص الذي يسوء
تصرفه في المال لعجز أو لقلة ذات اليد بمنزلة العبد في وضعه تحت إرادة غيره في
تصرفه ، ويصير راضيا بالهوان والذل .
وكلا
هذين المعنيين للحرية جاء مرادا للشريعة ، وناشئا عن الفطرة . لذلك قال عمر ابن
الخطاب رضي الله عنه : " بم استعبدتم الناس ، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟"
أي بحكم الفطرة . فإطلاق المعنى الأول في الشريعة مقرر مشهور ، ومن قواعد الفقه
كقول الفقهاء :
« الشارع متشوف إلى الحرية » . ومن استقراء تصرفات الشريعة دلت على أن من أعظم
مقاصدها : إبطال العبودية وتعميم الحرية ، لكن لم يُبْطِل العبودية وتعويضها
بالحرية بوجه عام ، كما تبطل كل أسباب تجدد العبودية ، بل أبقت على بعضها كالأسر ؛
لأن نظام المجتمعات في كل قطر كان قائما على نظام الرق والعبيد في الخدمة والعمل والرعي
. فلو منعه الإسلام كلية لقلب النظام رأسا على عقب ؛ ليَنْفَرِط عقدُ نظام المدينة
، ويتعسر بعد ذلك انتظامه .
كما
أن الأمم التي سبقت الإسلام قد تمتعت باسترقاق من وقع في يدها . فلو أمنت
الاسترقاق حين الحروب مع المسلمين لكان ذلك أدعى إلى رفضها إجابة الدعوة الإسلامية
اتكالا على كثرتها ، وأمنا من وصمة العبودية . كما قال صفوان بن أمية : " لأن
تربني قريش خير من أن تربني هوازن ".
فالإسلام
جمع بين مقصديه : 1- نشر الحرية . 2- وحفظ نظام العالم .
وذلك
بأن سلط عوامل الحرية على عوامل العبودية مقاومة لها بتقليلها وعلاج الباقي منها ،
فأبطل الكثير من أسباب الاسترقاق :
1-
كإبطال الاسترقاق الاختياري : وهو أن يبيع المرء نفسه أو يبيع كبير العائلة بعض
أبنائها ، وكان ذلك شائعا من قبل .
2- وإبطال الاسترقاق من أجل الجناية : بأن يحكم على الجاني
ببقائه عبدا للمجني عليه. كما قال
تعالى على لسان إخوة يوسف : ﴿ قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ﴾([431]).
3-
وإبطال الاسترقاق في الدين الذي كان شرعا عند الرومان .
4-
وإبطال الاسترقاق في الحروب والفتن الداخلية والواقعة بين المسلمين .
5-
وإبطال استرقاق السائبة – أي الرقبة المتروكة – كاسترقاق السيارة يوسف u
حين وجدوه في الجب .
ولم
يبق إلا استرقاق الأسر خاصة .
كما
أنه عالج الرق الموجود عن طريق الأسر ، وذلك بتقليله عن طريق تكثير أسباب رفعه ، فجعل بعض مصارف الزكاة في شراء العبيد وعتقهم
، فقال تعالى : ﴿ وفي الرقاب ﴾([432]).
وجعل العتق من وجوه الكفارات الواجبة : في القتل الخطأ والفطر في نهار رمضان عامدا
، والظهار ، والحنث في اليمين . وأمره تعالى للأسياد بمكاتبة العبيد إن طلبوا ،
فقال : ﴿ فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ﴾([433])
. كما رغب الشارع في عتق العبيد ، وأن أفضل الرقاب أعلاها ثمنا ، كما في حديث أبي
ذر : « أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها »([434])
وفي الحديث : « ورجل له أمة فعلمها فأحسن تعلميها ، وأدبها فأحسن تأديبها ، ثم
عتقها وتزوجها ، فله أجران » ([435]).
كما
عالج بتخفيف آثار حالته ، فنهى عن التشديد على العبيد في الخدمة ، كما جاء في حديث
أبي ذر : « لا يكلفه من العمل ما يغلبه ، فإن كلفه فليعينه »([436])
والأمر بكفاية مؤنتهم وكسوتهم ففي حديث أبي ذر المتقدم : « عبيدكم خَوَلُكم([437])
، إنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم ،
فمن جعل أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليُلبِسْه مما يلبس ».
والنهي
عن ضربه الخارج عن الحد . والنهي عن أن يقول الرجل : عبدي أو أمتي ، وليقل : فتاي
، وفتاتي .
والنهي
عن أن يقول العبد لمالكه : سيدي ، ربي . وليقل : مولاي إلى غير ذلك .
من
هذا كله يتضح أن الشريعة الإسلامية قاصدة بث ونشر الحرية التي ضد العبودية ، وهو
المعنى الأول .
أما
الحرية بمعناها الثاني : وهو تمكين الشخص من التصرف في ماله
ونفسه وشئونه كما يشاء . فلها مظاهر كثيرة ، هي من مقاصد الإسلام ، وهذه المظاهر
تتعلق بأصول الناس في معتقداتهم ، وأقوالهم ، وأعمالهم .
وعليه فيتناول هذا
النوع حريات ثلاث :
1-
حرية الاعتقادات . 2- حرية الأقوال . 3- حرية الأعمال ([438]).
1- حرية الاعتقادات
:
أما
حرية الاعتقادات : فقد أسسها الإسلام :
أ- إبطال الاعتقادات الضالة .
ب- وبالدعاء إلى إقامة البراهين على العقيدة الحقة .
ج- وبالأمر بحسن مجادلة المخالفين وردهم إلى الحق
بالحكمة والموعظة الحسنة .
د- وبنفي الإكراه في الدين ، فلولا أن حرية
الاعتقاد من أصول الشريعة ما كان عقاب الزنديق الذي يظهر الإيمان ويضمر الكفر غير
مقبولةٍ فيه التوبةُ ؛ إذ لا عذر له فيه .
2- حرية الأقوال :
فهي
التصريح بالرأي والاعتقاد في حدود الإذن الشرعي ، وقد أمر الشارع ببعضها ، في قوله : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾([439])
. وقوله ﷺ : « من رأى منكم منكرا فليغيره بيده »([440])
.
ويدخل
في ذلك حرية العلم والتعليم والتأليف .
وقد
ظهرت هذه الحرية في أجمل مظهر في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام فقال ﷺ :
« نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ، فأداها كما سمعها ، فرب حامل فقه إلى من هو
أفقه منه ، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه »([441])
.
وحين
عزم أبو جعفر الخليفة على أن يكتب كتاب الإمام مالك « الموطأ » ويرسله إلى كل مصر
ليحمل الناس عليه . رفض الإمام مالك ؛ لأن الناس قد سبقت لهم أقاويل وسمعوا أحاديث
، وأخذ كلُّ قوم بما سبق إليهم من اختلاف أصحاب رسول الله ﷺ وغيرهم ، وإنّ ردَّهم عن
ذلك شديد ، فدع الناس وما هم عليه ".
ولو
لا اعتبار حرية الأقوال لما كان هناك تأثير للعقود والإقرارات والالتزامات وصيغ
الطلاق والوصايا . ولذلك يُسلب عنها التأثير متى تُحُقِّقَ أنها صدرت في حالة الإكراه
.
3- حرية الأعمال :
وأما حرية الأعمال : فهي تكون في عمل المرء في خاصيته وفي
عمله المتعلق بعمل الغير .
أ- فأما حرية المرء في عمله في خاصة نفسه : فهي تدخل في
تناول كل مباح . والمراد بالمباح هنا : هو المأذون فيه ، ولو بالعموم ، فيدخل فيه
المكروه . مثل : ما أبيح للناس من الماء والكلأ ، والمطاعم ، والملابس ، والمساكن
، وتناول الشهوات المأذون فيها .
ولذلك
كان تصرف الزوجة في مالها غير موقوف على رضا زوجها على اختلاف في مقدار ذلك .
ب-
وأما حرية المرء في عمله المتعلق بعمل الغير ، فالأصل فيها الإذن ما لم تضر بالغير
، فإن عمل عملا فيه إضرار بالغير ضمن ذلك
الإضرار ، ووجب تداركه بقدر الإمكان ، فإن فات ما به الإضرار بحيث لا يجبر
الضمان كان فيه الزجر بالعقوبة ، ومن حرية الأعمال المتعلقة بأعمال الغير : ما
يُلزِم به المرء نفسه من العقود والالتزامات لمصلحة يراها ، فإن إلزامه نفسه بها
أثر من آثار حرية العمل .
ولا
شك أن للشريعة حقوقا على أتباعها تقيّد حرية تصرفاتهم بقدرها ، وذلك مثل : إلزامهم
بإقامة المصالح العامة : كفروض الكفايات . وإلزامهم بنفقة القرابة ، فإن تجاوز
حدودها أوقف بالضمان والغرم أو بالعقوبة([442]).
مقاصد أحكام العائلة
تتكون
العائلة عن طريق اقتران الذكر بالأنثى المعبّر عنه بالنكاح الذي هو أصل لتكوين
النسل، فمن نظام النكاح تتكوّن الأمومة والأبوّة والبنوّة ومن هذا تتكوّن الأخوّة،
ومن امتزاج رابطة النكاح برابطة النسب والعصبة تحدث رابطة الصهر، ومن كل ذلك
تتكوّن العشيرة، فالقبيلة فالأمة ولاهتمام الشريعة الإسلامية بالعائلة فقد أحكمت
روابط وأواصر النكاح والقرابة، والمصاهرة، ثم بيّنت ما يقبل الانحلال منها وما لا
يقبله، وهي بإيجاز - كما يأتي:
أ- رابطة النكاح - أو عاطفة وآصرة النكاح
كان
النكاح في الجاهلية - كما أخبرت السيّدة عائشة - رضي الله عنها- على أربعة أنواع:
نكاح
الناّس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليّته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها…
نكاح
الاستبضاع، وهو أن يقول الرجل لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضع
منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسّها حتى يتبيّن حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه،
فإذا تبيّن حملها أصابها زوجها إذا أحبّ، ويفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد من
السلالة التي يريدها.
نكاح
ثالث:
يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت،
ومرّ عليها الليالي بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منه أن يمتنع
حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدْت فهو ابنك يا
فلان، تسمي من أحبّت إلحاق الولد به - باسمه - فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع
عنه الرجل أو ينكر.
نكاح
رابع:
نكاح البغايا: وهو أن يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع عمن جاءها،
وكانت المرأة تنصب على بابها الرايات لتكون علماً على بغيها، فمن أرادها دخل عليها، فإذا حملت ووضعت اجتمعوا لها
ودعوا لهم القافّة فألحقوا ولدها بالذي يرون أنه يشبهه، فالتاط به أي التصق به
ودُعِي ابنه، ولا يمتنع من ذلك.
فلما
بعث سيّدنا محمد - ﷺ - بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم.
مع
ملاحظة أن السيّدة عائشة - رضي الله عنها- لم تذكر جميع الأنكحة التي كانت في
الجاهلية، ومنها نكاح السفاح والمخادنة،
اقتصارا منها على الأنكحة التي كانت مباحة في الجاهلية فأُبْطِلَتْ بالإسلام.
أما
السفاح وهو الزنى بدون التزام برجل ولا مداومة، والمخادنة وهو زناً مع التزام
ومداومةٍ فكانا ممنوعين في الجاهلية ولا تقرّه أولياء النساء والبنات في الجاهلية.
وكذلك نكاح الضِّماد وهو أن تتخذ المرأة ذات الزوج خليلا تنفق عليها في وقت الشدّة
حين تقلّ نفقة الزوج خفيةً عنه، أو بغض نظرٍ منه([443]).
والنوع
الأول
من النكاح، وهو ما عليه الناس اليوم، هو أن يختص الرجل بامرأة أو نساء هن قرارات
نسله، حتى يثق من جراء ذلك الاختصاص بثبوت انتساب نسلها إليه، وهذا الاختصاص حُفّت
به أشياء منذ القدم كانت وازعةً للمرأة عن الوقوع فيما يفضي إلى اختلاط الأنساب
منها:
حصانة
المرأة في نفسها بحسب نشأتها وتربيتها ودينها.
وحصانة
مقرّها بحسب صيانة زوجها إيّاها، وذبّ جيرتها عنها لأنهم أمثال لحال زوجها.
لذلك
لم تنقض الشريعة ما انعقد من عقود هذا النكاح في الجاهليّة، لأنه كان جارياً على تلك
الأحوال الكاملة.
ثم
زادت الشريعة عقدة النكاح تشريفاً وتنويهاً بأن أضيفت على هذه الفضائل المقصد
الدّيني، فزادها تفضيلاً وحرمة في نفوس الأزواج، وفي نظر الناس، بحيث لم يبق
النكاح معدوداً في عداد الشهوات، وإنما هو سكن ومودّة ورحمة، فقال تعالى: ﴿وَمِنْ
آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا
وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ﴾([444]).
هذا
بالإضافة إلى الحرص على تحقق رضا الزوجة وأهلها، وحسن قصد الرجل معها من دوام
العشرة وإخلاص المحبّة.
ويمكن
تلخيص مقصد الشريعة في أحكام النكاح الأساسية والفرعية في أصلين اثنين:
الأصل
الأول:
وضوح مخالفة صورة عقد النكاح في الشريعة لبقية صور ما يتفق في اقتران الرجل
بالمرأة، وهذا قد ظهر في حديث عائشة - رضي الله عنها- الذي فرق بين النكاح المشروع،
وبين غيره من الأنكحة، وقوام هذه التفرقة أمور ثلاثة:
أحدها:
أن يتولى عقد المرأة وليٌّ لها خاص إن كان أو عام، ليظهر أن المرأة لم تتولّ
الركون إلى الرجل بمفردها ودون علم ذويها، وحتى يكون الوليّ عوناً لها على حراسة
حالها وحصانتها وحتى تكون عشيرته عوناً له في الذّب عن ذلك، وهذا أول الفروق بين
النكاح، والزنا، والبغاء، والمخادنة، والاستبضاع، فإنها فإنها لا يرضى بها
الأولياء في عرف الناس في الغالب([445]).
واشتراط
الوليّ في النكاح هو قول الجمهور، خلافاً للحنفية الذين جعلوا هذا الشرط للصغيرة
والمجنونة والرقيق فقط دون الحرة البالغة الرشيدة.
ثانيها:
أن يكون ذلك النكاح بمهرٍ يبذله الزوج للزوجة، فإن المهر شعار النكاح المشروع، إذ
كان النكاح في الجاهلية شبيها بالملك، والزوجة تشبه الرقيق.
فجاء
الإسلام فجعل المهر منحة وعطيّة فقال تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ
زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾([446])،
وتسميته أجراً في قوله تعالى: ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾([447])،
مؤوّل فهو من قبيل المجاز في معنى الأعواض عن المنافع الحاصلة من آثار عقدة النكاح
إذ لو كان المهر أجوراً أو عوضاً عن البضع حقيقة:
1- لوجب
تحديد مدّة الانتفاع ومقداره.
2- ولروعي
فيه مقدار المنفعة المعوّض عنها.
3- ولوجب
تحديد مقدارٍ من المال كلما تحقق أن المقدار المبذول قد استغرقته المنافع الحاصلة
للرجل مدّة بقاء الزوجة في عصمته مثل عوض الإجارة.
لهذا
كله كان المهر في الإسلام شعاراً من أشعرة النكاح يفرق به بين النكاح وغيره من
الزنا والمخادنة ونحوهما.
واصطباغ
النكاح بصبغة العقود من أجل الإيجاب والقبول، وصورة المهر اصطباغ عارض ولذلك قال
الفقهاء: ((النكاح مبنيّ على المكارمة، والبيع مبنيّ على المكايسة)) وليس معنى ذلك
أن الشريعة لم تلتفت إلى ما في الصداق من المنفعة الراجعة إلى الزوجة، وأنها ألغت
انتفاع المرأة بالصداق، وبمواهبها الجمالية والأخلاقية والأسرية التي تسوق إليها
المال وتكثر من صداقها وإنما الشريعة اعتبرت ذلك ونظرت إليه ولم تلغه؛ لأنها لو
ألغته لكان إلغاؤه إضراراً بالمرأة؛ لذلك قال الله في شأنه: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾([448])
الآية. أي وإن خفتم أن لا تعدلوا فسمى عدم إعطاء اليتيمة الصداق المماثل لبنات
جنسها بما يساوي الجور وعدم العدل([449]).
ولذلك
قالت عائشة - رضي الله عنها- حين سئلت عن هذه الآية: «هي اليتيمة تكون في حِجْر
وليِّها فيعجبه مالُها وجمالُها فيريد أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها
مثل ما يعطيها غيره، فنُهُوا أن ينكحوهن إلاّ أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى
سنّتهنّ من الصداق»([450])،
وأمِرُوا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ([451]).
للصداق
تسعة أسماء - كما قال ابن قدامة -، الصداق - الصَّدُقة - المهر - النِّحلة -
الفريضة - الأجر - العلائق - العُقر - الحِباء([452]).
ثالثها:
إشهار النكاح: فإشهار النكاح وإعلانه يُحَصِّل معنيين:
أولهما:
أنه يحثّ الزوج على مزيد من الحصانة للمرأة، إذ قد علم الناس اختصاصه بالمرأة، فهو
يتعيّر بكل ما ينقص من قدرها ويوجد الريبة والشكّ فيها.
وثانيها:
أنه يبعث الناس على احترامها، وانتفاء الطمع فيها غذ صارت محصّنة، لذلك جعل القرآن
النكاح إحصاناً فسمى الأزواج محصنين، وسمى الزوجات محصنات بصيغة اسم المفعول فقال:
﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾([453]) وقال:
﴿مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَات﴾([454])،
وأطلق على ذاوت الأزواج محصنات بقوله: ﴿فَإِذَا أُحْصِنّ﴾([455]) أي
أحصنهمّ أزواجهنّ.
وإنما
كان الإشهار من الأمور التي ميزت نكاح الإسلام عن غيره من الأنكحة؛ لأن الإسرار
به:
1- يقرّبه
من الزّنا.
2- ويحول
بين الناس والذّب عنه واحترامه.
3- ويعرض
النسل إلى الاشتباه في أمره.
4- وينقص
من معنى حصانة المرأة ويحطّ من قدرها.
فإذا
أشهد على النكاح ولم يشهره، فهل يقوم الإشهاد مقام الإشهار؟
الجواب:
وإذا حصل الإشهاد وعلم كثيرٌ من الناس، ولم يوص الزوج أو الزوجة بكتمانه - من غير
ضرورة كالإيصاء بكتمانه على الضرّة فقط كالضرّة المغيارة - فلا بأس ويصح، أما إذا
أوصى بالكتمان المطلق - أي على جميع الناس - فهو نكاح سرٍّ وباطل - في الأظهر -
ولوكان الشهود ملء الجامع كما قال الفقها.
أما
الإسرار به عن بعض الناس، كالضرة المغيارة، ونحو ذلك فلا يضر.
س:
هل التوثيق بتسجيل الإشهاد لعقد النكاح تسجيلا يقطع تأتّي النكارة أو الشكّ فيه -
يقوم مقام الشهرة في معظم حكمتها؟
خلاف-
الأظهر: الجواز ما لم يوص بالسريّة المطلقة.
الأصل
الثاني:
عدم توقيت النكاح. أو جعله إلى أجل فإن ذلك يقرب من عقود الإجارات والأكرية، ويخلع
عن النكاح ذلك المعنى المقدس الذي ينبعث في نفوس الزوجين من نية كليهما أن يكون
قريناً للآخر ما صلح الحال بينهما.
لأن
الزواج المؤقت يؤدي إلى ضعف الحصانة الزوجية التي أشرنا إليها آنفاً، وذلك لانصراف
كل من الزوجين عن إخلاص الودّ للآخر، والتفكير في البديل عند انتهاء المدّة، بل
وتبديد أموال الزوج، وعدم المحافظة عليه، وغير ذلك من الأمور، ولذلك حرّم نكاح
المتعة بعد أن كان قد رخّص فيه في صدر الإسلام، وقد اتفق جمهور الفقهاء على بطلانه
وفسخه إن وقع خلافاً للشيعة الذين أجازوه مطلقاً، لكن الراجح: ما عليه الجمهور؛
لأنه روي أن النبي ﷺ حرّمها في حجّة الوداع إلى يوم القيامة، على التأبيد. وما روي
عن ابن عباس - رضي الله عنه - واشتهر أنه أجازه في السفر، وكأنه رأى ارتكاب أخف
الضررين خشية الوقوع في الزّنا، لكن روي أنه رجع عما قال وحرّمه كالميتة والدم([456]).
ولقداسة
عقدة النكاح في نظر الشريعة الإسلامية فقد أُمر الزوج بحسن المعاشرة والإمساك
بمعروف، والتفريق بإحسان، وأن إضرار الزوج للزوج يفضي إلى فسخ عقدة النكاح بحكم
القاضي إذا ثبت الضرر.
كما
أُمر الزوج - أمر وجوب - بالإنفاق على الزوجة ولو كانت غنيّة، وجعل الزوجية سبباً
في التوارث كل ذلك لتحقيق آصرة ورابطة الزوجية، ولتحقيق قوّة تلك الرابطة([457]).
ب- رابطة النسب والقرابة
تبدأ رابطة النسب
والقرابة بنسبة البنوّة والأبوّة عن طريق اتصال الذكر بالأنثى. ومن هذا ينشأ النسل.
والنسل المعتبر شرعاً
هو الناشئ عن اتصال الزوجين بواسطة عقدة النكاح المنتفي عنها الشكّ في النسب.
وباستقراء مقصد
الشريعة في النسب عرفنا أنها تحرص على نسب لا شك فيه عن طريق نكاح بصفاته المقررة
سلفاً.
أما ما كان من أنساب
في الجاهلية عن طريق البغاء أو الاستبضاع ونحوهما - عدا النكاح فقد أقرته الشريعة
اعتماداً على ثقة أهل الجاهلية به؛ لأن الثقة بالنسل قبل الإسلام إنما جاءت بناء
على ما في الجبلة والفطرة من إباية الناس التحاق من ليس من نسبهم بهم.
ولأنه لو محصت
الشريعة ونقبت عن الأنساب الصحيحة وغيرها لفتحت الباب إلى طعن بعض الناس في أنساب
بعض فتحدث الفتن، فضلاً عن تعذر وتعسّر ذلك لاختلاط النسب غير الصحيح النادر مع
الصحيح الكثير الغالب.
ولكون هذه الأنساب
نشأت في حالة قلة ضبط فلم تهتم الشريعة الإسلامية إلا بإبطال الكيفيات التي من
شأنها يتطرق الشكّ إليها حتى لا يعود الناس إلى مثلها في الإسلام.
وألحقت الشريعة
التسرّي - وهو وطء الحرّ أَمَتَه - بالنكاح الصحيح في إثبات النسب وصحته؛ لأن
الحرّ عند ما يتخذ أمته سريّة يحيطها من الحراسة بسياج يفوق ما يحوط به إماء الخدمة
فإذا صارت أم ولد له صارت لها أحكام ليست لغيرها.
مع ملاحظة أن الشريعة
لم ترخص للحرّ أن يتزوج أمة إلا بشرطين:
1- عدم القدرة على
الزواج بحرّة. 2- خشية الوقوع في
الزنا.
وذلك
لأن في الزواج بها يجمع عليها سيادتان: أ- سيادة الزوجية. ب- سيادة التملك.
وذلك يشابه زواج
المرأة الواحدة برجلين، وهو لا يجوز.
ومحافظة الشريعة على
النسب وحرصها على أن يكون صحيحاً صادق النسبة إلى أصله يجعل الأصل يعطف ويحنو على
فرعه، والفرع يبرّ بأصله عن طريق الجبلة والفطرة بالإضافة إلى إقرار نظام العائلة،
ودرء أسباب الخصومات الناشئة عن الغيرة وعن تطرق الشكّ من الأصول في انتساب النسل
إليها، والعكس([458]).
وألحقت الشريعة رابطة
وآصرة الرضاع بآصرة النسب، وذلك بتنـزيل المرضعة منـزلة الأم، وتنـزيل الرضيع
منـزلة الأخ في المحرميّة، فقال تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي
أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾([459])، وقال
ﷺ : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»([460]).ثم
أضفت القدسية على رابطة القرابة والنسب فألبستها ثوب الحرمة والوقار، فقررت
المحرميّة بالنسب، فحرّمت الأصول والفروع في النكاح حتى تكون القرابة تامّة مرموقة
مملوءة بالعظمة والوقار، خالية من معنى الشهوة.
فالأجل ذلك حرّم نكاح
القرابة المنصوص عليها.
والحكمة من تحريم ما
حرّم تزوجه تختلف باختلاف أنواع المحرّمات، فحكمة تحريم المحرّمات من النسب: هي
إيجاد الحشمة والوقار بين قرابة النسب؛ لأنه لما كان معظم القصد من النكاح هو
الاستمتاع، وكانت مخالطة الزوجين غير خالية من نبذ الياء حتى قالوا: ((جدع الحلال
أنف الحياء))، وكان ذلك منافيا لما تقتضيه القرابة ((قرابة النسب)) من الوقار
والاحتشام لكليهما. وذلك ظاهر في أصول الشخص وفروعه، وصنوان أصوله كالعمة والخالة.
وأما صنوان الشخص وهم الإخوة والأخوات فلقصد إيجاد معنى الوقار بينهما.
وأما محرّمات الصهر:
فبعضها حرّم إلحاقا بالنسب كأم الزوجة فإنها تحرم على الزوج ولو كانت ابنتها ميتة،
والربيبة التي دخل بأمها. وبعضها. وبعضها حرّم لدفع ما يعرض من شقاق يفضي إلى قطع
الرحم بين من قصدت الشريعة قوّة الصلة فيه، ولهذا لا يجمع بين الأختين ولا بين
المرأة وعمتها أو خالتها([461]).
وأما المحرّمات
للرضاع، فلتنـزيلها منـزلة النسب، لقول النبي ﷺ : «يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب»([462]).
وأما المحرّمات لأجل
حق الغير كإدخال الأمة على الحرّة، فإنه يحرم بناء على قول أبي حنيفة وأحد القولين
في مذهب مالك، لما فيه من لحوق الضرر بالحرّة.
وأما التحريم بسبب
الملاعنة، فلأن ما جرى بين الزوجين من الملاعنة يتعذر بعده حسن المعاشرة بينهما.
وأما التحريم بسبب
عدم الدين السماوي، فلأن التجافي بين الاعتقادين دين الإسلام، والأديان الأخرى -
غير الإلهية - واسع البون، بخلاف الأديان الإلهية الأخرى .
ومنها المحرّمات لحق الله تعالى، كالمطلقة
ثلاثاً على من طلّقها ولم يدخل بها زوج أخر بعد طلاق الثلاث([463]).
والمملوكة والمسترقة
للذي يجد طولاً للحرّة، وإدخال الأمة على الحرّة عند أبي حنيفة وأحد القولين عند
مالك.
وإذا كانت المرأة هي
قرارة النسل، لم تبح الشريعة للمرأة تعدد الأزواج حتى لا تختلط الأنساب، وإباحة
تعدد الزوجات للرجل إلى حد معيّن وأباحت للرجل التسرّي ولم تبحه للمرأة إذا كانت
متزوجة لاختلاط الأنساب. وإذا كانت غير متزوجة لم تبحه أيضاً؛ لأن عبد المرأة لا
يغار على نسبه منها.
ومن متممات تقوية
رابطة القرابة والنسب: أحكام النفقة على الأبناء والآباء باتفاق العلماء. وعلى
الأجداد والأحفاد عمد البعض([464]).
وجعل القرابة سبباً
للميراث على الجملة، والأمر ببر الأبوين، وبصلة الأقارب وذوي الأرحام، مما لا يعرف
نظيره في الشرائع السابقة.
والترخيص في أن يطعم
المرء في بيوت قرابته دون دعوة أو إذن لقوله تعالى: ﴿وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ
تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ
أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ([465])﴾([466]) .
ومن متمماتها أيضاً:
إبداء الزينة للبعولة وآباء البعولة وأبناء البعولة في قوله تعالى: ﴿وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ
بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾([467])
الآية، ويقاس على ذلك بالمساواة الأنثى من هذه المراتب كلها، مثل أم الزوجة
بالنسبة إلى زوج ابنتها، وبنت الأخ بالنسبة إلى عمتها. ومن حقوق القرابة والنسب:
الميراث.
جـ - رابطة وآصرة الصهر
نشأت رابطة الصهر عن
رابطة النسب والنكاح كما قال تعالى: ﴿فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً﴾([468])، وعن
تحقيق معنى الجلال والوقار المقصودين في رابطة القرابة، كما تقدم.
فالصهر رابطة بسبب
قرابة أهل رابطة النكاح: كالربائب، وأخت الزوجة وعمتها وخالتها، وأم الزوجة، أو
بسبب نكاح أهل رابطة القرابة: كزوجة الابن وزوجة الأب.
نشأت رابطة الصهر
بوصفيها القريب: كتحريم الجمع بين الأختين، والبعيد: كالجمع بين المرأة وعمتها -
فجعلت أم الزوجة وابنتها محرّمتين على الزوج. وأبا الزوج وابنه محرّمين على
الزوجة، نظرا للحرمة المركبة من قرابة أولئك بالزوجة أو الزوج، ومن صهرهما للزوج
أو الزوجة.
فالشريعة الإسلامية
حافظت على روابط المودّة بين قرابة الصهر القريب، فحرّمت زوجة الابن على الأب،
وزوجة الأب على الابن، ولم يكن المقصد من ذلك مجرد حفظ الروابط بين الشخص المحرّم
والشخص الذي وقع التحريم بسببه؛ لأنا وجدنا تحريم الصهر مستمراً حتى بعد موت الشخص
الذي وقع التحريم بسببه، عدا تحريم الجمع بين الأختين، فإنه يزول بموت أحدهما.
وإنما المقصد هو إضعاف التقديس والتكريم على قرابة الصهر القريب.
أما الصهر البعيد: فمنه
ما يحرم: كالجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها. ومنه ما لا يحرم بحال، لضعف
رابطته: كالجمع بين المرأة وبنت عمتها، وبنت خالتها، وبنت عمها، ونحو ذلك([469]).
طرق انحلال هذه
الروابط: إذا تبيّن فسادها، أو عدم استقامة بقائها يكون الانحلال تبعاً لكل رابطة:
فرابطة النكاح يكون
انحلالها بالطلاق من تلقاء الزوج وبطلاق الحاكم، وبالفسخ عن طريق الخلع.
والمقصد منه: ارتكاب
أخف الضررين عند تعسر استقامة المعاشرة.. فشرع الطلاق لحل هذه الرابطة. ورابطة
النسب يكون انحلالها - مع التسامع في أنه ينحل - باللعان، وبإثبات انتساب الولد
إلى أب غير الذي ينسب نفسه.
ورابطة الصهر يكون
انحلالها - فيما ينحل منها - بموت أو طلاق مثل أخت تلك المرأة، أو عمتها، أو
خالتها، فتنفك المحرميّة بموت أو طلاق أحدهما.
ومنه ما لا انحلال
فيه: كأم الزوجة، وزوجة الأب، والابن والربائب([470]).
عموم الشريعة وكونها رحمة للعالمين
لما كانت الشريعة
الإسلامية خاتمة الشرائع استلزم ذلك أن تكون عامة لسائر الناس، وسائر الأقطار في
سائر الأزمنة، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1- قوله
تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾([471]).
2- وقوله
تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ﴾([472]).
3- وقوله
ﷺ : «… وبعثت إلى الناس عامة»([473]).
ولما كانت الشريعة
الإسلامية خاتمة الأديان وآخرها تعين - أن تكون دين الفطرة السليمة حتى يقبلها أهل
العقول والآراء الراجحة من الناس الذين يستطيعون فهم مغزاها ومقارنتها بغيرها،
وحتى يتلقاها غيرهم عن طيب نفس.
ولتعذر إرسال جماعة
من الرسل من جميع الأجناس البشر، اختار الله تعالى لشريعته رسولاً عربيا واحدا،
ولكونه يتكلم بلسان عربي مبين كان المتلقون عنه في بادئ الأمر من العرب حتى يحملون
شريعة الإسلام إلى سائر المخاطبين بها.
وقد اختار الله تعالى
العرب لنشر رسالة نبيّه محمد ﷺ ، لامتيازهم بأمور أربعة لم توجد في غيرهم من الأمم
وهي:
1- جودة
الأذهان حتى يكونوا أهلاً لفهم هذا الدين وتلقيه.
2- قوة
الحوافظ ليكونوا أهلاً لحفظه وعدم الاضطراب في تلقيه.
3- بساطة
الحضارة العربية والتشريع؛ لسرعة التخلق بها؛ إذ هم أقرب إلى الفطرة السليمة التي جاء
بها الدين الحنيف.
4- بعد
العرب عن الاختلاط ببقية أمم العالم، حتى يكونا أهلاً لمعاشرة الأمم الأخرى، وفتح
علاقاتها معها، لعدم وجود عداوات سابقة بين العرب وغيرهم.
لما كانت الشريعة
الإسلامية عامة - أيضا - اقتضى أن تكون أحكامها سواء لسائر الأمم المتبعين لها بقدر
الاستطاعة لهذا جعل الله تعالى الشريعة مبنية على اعتبار العلل والحِكم، فأمرت
الناس بالاعتبار في أحكام الشريعة والاستنباط منها، فقال تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا
يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾([474]).
كما أن من لوازم عموم
الشريعة أنها اشتملت في القرآن والسنة على كليات كثيرة وقواعد عامة، ومجملات
ومطلقات أريد بمعظمها العموم والإجمال والإطلاق.
1- فقال
تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾([475]).
2- وقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ﴾([476]).
3- وقوله
ﷺ : «إن دماءكم وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام»([477]).
4- وقوله
ﷺ : «ما أسكر كثيره فقليله حرام»([478]).
حتى إن ما جاء منها
جزئيا فيحتمل أن يراد بها العموم أو الخصوص ولعل هذا هو السرّ أو السبب في نهي
النبي ﷺ عن كتابة السنة فقال: «لا تكتبوا عني غير القرآن» وذلك خشية أن تتخذ
الجزئيات كليات عامة، لهذا جعل الشارع عادات الأمم المختلفة على الإباحة فلم يحمل
أمة على عادات أمة أخرى في التشريع؛ لذلك لم يتعرض التشريع لتعيين الأزياء
والمساكن والمراكب، فمنهم من ركب الحمير ومنهم من ركب الجمال…
لذلك لم يحْتجْ
المسلمون إلى تطلب دليل على إباحة ركوب السيارات ونحوها، وكذلك أضاف المطاعم ما
دامت لا تشتمل على شيء محرم غير أن التشريع الإسلامي قد يحمل أصحاب العادات
والأعراف عليها إذا التزموا بها وساروا عليها، إذ تصير بمنـزلة الشرط بينهم؛ ولذلك
رأى الإمام مالك أن المرأة ذات القدر لا تجبر على الرضاع ((إرضاع ولدها في العصمة))
لأن ذلك عرف تعارفه الناس، فهو كالشرط، وجعل قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾([479])
مخصوصاً بغير ذات القدر، أو جعله مسوقاً لغرض التحديد بالمدة، وليس مسوقاً لأصل
إيجاب الإرضاع.
مما يدل على عموم
الشريعة أيضا، أن الشريعة الإسلامية أو كلت أموراً كثيرا لم ينصّ على حكمها إلى
اجتهاد علمائها فقال ﷺ : «إن الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة بكم
غير نسيان فلا تسألوا عنها»([480]).
ولذلك اجتهد الفقهاء لاستنباط أحكام للأمور التي سكت عنها الشارع ولم ينصّ أو يجمع
على حكمها فاجتهدوا في الخراج والديات وأرش الجنايات ونحوها.
من هذا يتضح أن عموم
الشريعة لسائر البشر وسائر العصور وصلاحيتها للناس في كل زمان ومكان، قد أجمع عليه
المسلمون، وذلك لمسايرة أحكامها لمختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر.
ولقابليّة الأمم للتشكيل وفق أحكامها من غير حرج ولا مشقة ولذلك ترى العرب،
والفرس، والقبط غيّروا بعد إسلامهم لبعض أحوالهم الباطلة التي اعتادوا عليها من
قبل من غير حرج ولا مشقة.
ومعنى صلوحية أو
صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان أن تكون أحكامها كليات ومعنى مشتملة على حكم
ومصالح صالحة؛ لأن تتفرع منها أحكام مختلفة الصور متحدة المقاصد، ولذلك كانت أصول
التشريع الإسلامي تتجنب التفريع والتحديد كما قال تعالى: ﴿وَالَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا﴾([481])، فلم
يذكر تعالى ضربا ولا رجما، وهكذا([482]).
ومن لازم عموم
الشريعة نشأة المساواة بين الأمة في تناول الشريعة أفرادها، فالشريعة تنظر إلى
تساويهم في الخلقة وفروعها، فالناس سواء في البشرية وفي حقوق الحياة بحسب الفطرة «كلكم
من آدم»([483])
فلا أثر لما بينهم من اختلاف في الألوان والصور والسلائل والمواطن.
كما أن المسلمين
متساوون في الانتساب إلى جماعة المسلمين قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ﴾([484])
فالأخوّة تشمل التساوي على الإجمال بجعل المسلمين سواء في الحقوق المخوّلة في
الشريعة بدون تفاوت، فهم سواء بأصل الخلقة، واتحاد الدين، وهذا يستلزم التساوي بينهم
في تعلق خطاب الشريعة بهم، لا فرق بين غنيّ وفقير، ولا بين قويّ وضعيف، فكل ما
شهدت به الفطرة من مساواة فالمسلمون فيه سواء والتشريع يفرض ذلك فظهر بذلك تساوي
الناس في نظر التشريع في المقاصد الضرورية، ولا نجد منهم فروقاً فيها، كذلك نجد
تساويهم في الحاجات، ولا نجد فروقاً بينهم فيها إلا في القليل النادر كسلب العبد -
مثلاً - أهلية التصرف في المال إلا بإذن سيّده.
فلا
تنشأ - إذن - الفروق إلا إذا كانت هناك موانع معتبرة تمنع اعتبار المساواة ([485]).
اﻫ.
الشّريعة
الإسلامية رحمة للعالمين
« الرحمة » مصدر رحِم ، ومنه « الرحمن
والرحيم » من أسماء الله تعالى ، وهما مشتقان منها ، غير أن « الرحمن » اسم مختص
له سبحانه ، لا يجوز أن يسمى به غيره ، ولذلك عادل سبحانه به الاسم الذي لا يشاركه
فيه غيره ، وهو لفظ الجلالة « الله » ، فقال : ﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ﴾([486])
. والرحمة : هي التعطف والرقة ([487]).
ورحمة الله وسعت كل شيء ، قال تعالى : ﴿
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة ، والذين هم بآياتنا
يؤمنون ﴾([488]).
يقول ابن كثير بعد ذكر هذه الآية : " آية عظيمة الشمول والعموم ، كقوله
إخبارا عن حملة العرش ومن حوله ، إنهم يقولون : ﴿ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ﴾([489])
.
وأخرج الإمام أحمد عن سلمان أن النبي ﷺ
قال : إن لله عز وجل مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش
على أولادها ، وأخّر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة » ([490]).
وفي رواية : « لله مائة رحمة عند تسعة
وتسعون ، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين
الجن والإنس ، وبين الخلق ، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه »([491]). وقوله
: ﴿ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة ... ﴾ أي سأجعلها للمتصفين بهذه
الصفات ، وهم أمة محمد ﷺ الذين يتقون الشرك والعظائم من الذنوب . ﴿ ويؤتون الزكاة ﴾
قيل : زكاة النفوس . وقيل : الأموال . وقيل : عامة لهما ، وهو الراجح ؛ لأنها مكية
، ونزولها كان قبل تشريع زكاة الأموال ([492]).
وقد أخبر سبحانه وتعالى : أنه كتب على
نفسه المقدسة الرحمة تفضلا منه وإحسانا وامتنانا ، فقال : ﴿ كتب على نفسه الرحمة
ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ﴾([493]).
وقوله : ﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه
من عمل منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ﴾ ([494]).
وقال ﷺ : « إن الله لما خلق الخلق كتب
في كتابه عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلِب غضبي »([495]).
هذه النصوص تدل على أن هذه الرحمة
للعالمين جميعا يتعاطف بها الخلق : جنها وإنسها وبهائمها .
ومن رحمة الله تعالى ولطفه بالبشرية أن
أقذها من ظلامها الداهم ، وسباتها العميق ببعثه محمد ﷺ الرحيم ، بشريعة مفحمة
بالرأفة والرحمة ، كما أخبر سبحانه وتعالى : أنه جعل نبيه محمدا ﷺ رحمة للعالمين
فقال : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾([496]).
أي أرسله رحمة لهم كلهم ، فمن قبل هذه الرحمة وشكر
هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ، ومن ردها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة
، كما جاء في قوله تعالى : ﴿ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم
دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ﴾([497]) .
كذلك أخبر النبي ﷺ عن نفسه بأنه بعث
رحمة للعالمين ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل : يا رسول الله ، أدعُ على المشركين ، قال : « إني لم أبعث لعانا ،
وإنما بعثت رحمة »([498]).
كل هذا يبين بجلاء : أن الشريعة
الإسلامية جاءت رحمة للعالمين شملت النّاس كافّة : المسلمين والكفّار ، والكبار
والصّغار ، والأرقّاء والأحرار ، وأصحاب الأعذار ، وكذا الحيوانات . ([499])
1- رحمة الشريعة الإسلامية
بالمسلمين :
أمّا رحمتها بالمسلمين فظاهرة . قال
تعالى : ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾([500]).
2- رحمة الشريعة الإسلامية
بالكفار .
قال الله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾([501]).
والعالمون جمع عالَم ، وهو كلّ ما سوى الله تعالى([502]).
والنّبيّ ﷺ يقول : «
أنا محمّد وأحمد والمقفّى والحاشر ، ونبيّ التّوبة ونبيّ الرّحمة »
([503]).
فإن قيل : أي رحمة حصلت لمن كفر به
تعالى ؟
فالجواب : هو ما روي عن ابن عباس في
قوله تعالى : ﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾ أنّه قال : « من آمن بالله واليوم
الآخر ، كتب له الرّحمة في الدّنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي ممّا
أصاب الأمم من الخسف والقذف »([504]).
وفي رواية أخرى قال : « من تبعه كان له
رحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف
والمسخ والقذف » ([505]).
ونهت عن قتل نسائهم وصبيانهم الذين لا
يشاركون في الحرب([506])
، وكان من وصيّة النبيّ ﷺ لأمرائه على الجيوش : « اغزوا باسم الله ، قاتلوا
من كفر بالله ، اغزوا ، ولا تغلّوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثّلوا ، ولا تقتلوا
وليداً » ([507]).
بل نهت عن قتل شيوخهم ، وبهائمهم لغير
مأكلة ، وعن تخريب عمرانهم ، وقطع أشجارهم المثمرة ، فقد وردت في وصيّة أبي بكر
الصّدّيق رضي الله عنه لأحد أمرائه([508]) :
« وإنّي موصيك بعشر : لا تقتلنّ امرأة ، ولا صبيّاً ، ولا كبيراً هرماً ، ولا
تقطعنّ شجراً مثمراً ، ولا تخرّبنّ عامراً ، ولا تعقرنّ شاةً ، ولا بعيراً إلاّ
لمأكلة ، ولا تحرقنّ نحلاً ، ولا تفرّقنّه ، ولا تغلل ، ولا تجبن »([509]).
3- رحمة الشريعة الإسلامية
بالكبار والصغار .
وأمّا رحمتها بالكبار والصّغار فقد
أوجبت على الأولاد برّ الوالدين ، ونصّت على حال
الكِبر ؛ لشدّة حاجتهما إلى البرّ خلاله ، واختارت في بيان ذلك أعلى مراتب العبادة
، الذي هو الإحسان فقال تعالى : ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ
لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ
وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾([510]).
وقال النّبيّ ﷺ: « ليس منّا من لم
يوقّر الكبير، ويرحم الصّغير » ([511]).
وفي رواية : « من لم يرحم صغيرنا ، ويعرف حقّ كبيرنا ، فليس منّا » ([512]).
وثبت أنّ ناساً من الأعراب قدموا على
رسول الله ﷺ فقالوا: أتقبّلون صبيانكم ؟ فقالوا: نعم ، لكنّا والله ما نقبّل، فقال
رسول الله ﷺ: « وأملك إن كان الله نزع منكم الرّحمة » . وفي رواية: « من
قلبكم الرّحمة » ([513]).
وحين أبصر الأقرع بن حابس النبيّ ﷺ
يقبّل الحسن قال : إنّ لي عشرة من الولد ما قبّلت واحداً منهم ، فقال رسول الله ﷺ:
« إنّه من لا يرحم لا يُرحم » ([514]).
4- رحمة الشريعة الإسلامية
بالأحرار والعبيد
وأمّا رحمتها بالأحرار فلم تبطل ملكهم ،
بل أثبتته وأمر العبيد بطاعتهم ، في حين أنّها وسّعت أبواب الحرّيّة ، وأوصت بالعطف
والإحسان إلى الأرقّاء ، فقال ﷺ : « إخوانكم وخَوَلكم، جعلهم الله تحت
أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليُلبسْه ممّا يلبس، ولا
تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم عليه » ([515]).
وقال ﷺ: « للمملوك طعامه وكسوته ،
ولا يكلّف من العمل إلاّ ما يطيق » ([516]).
5- رحمة الشريعة الإسلامية
بأصحاب الأعذار .
أمّا رحمتها بأصحاب الأعذار فقد خفّفت
عنهم التكاليف ، فأسقطت عن المسافر الصّوم وشطر الصّلاة ، وعن المريض الصّوم ،
والقيام في الصّلاة فقال تعالى : ﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾([517]).
وقال النبيّ ﷺ : « إنّ الله تعالى
وضع عن المسافر الصّوم وشطر الصّلاة » ([518]).
وقال للمريض([519])
الذي كانت به البواسير : « صلّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع
فعلى جنب » ([520]).
ورفع عنهم الجناح في عدم المشاركة في
الجهاد فقال تعالى : ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ
حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ
يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ﴾([521]).
ظهرت رحمتها في تدرّجها في التّشريع([522])،
وبناء أحكامها على اليسر ورفع الحرج([523])،
ورفع الإصر الذي كان على من قبل هذه الأمّة([524]).
وصدق الله إذ قال: ﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ﴾([525]). قال ابن عبّاس –رضي الله عنهما-: " كان في
بني إسرائي القصاص ولم يكن فيهم الدّية، فقال الله تعالى لهذه الأمّة : ﴿ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾.
فالعفو أن يقبل الدّية في العمد، ﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ ﴾ . يتّبع بالمعروف ويؤدّي بإحسان. ﴿ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَرَحْمَةٌ ﴾ ممّا كتب على من كان قبلكم ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ
عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ قتل بعد قبول الدّية)([526]).
(البقرة: من الآية178).
6- رحمة الشريعة الإسلامية
بالحيوانات .
وأمّا رحمتها بالحيوانات فقد نهى النبيّ
ﷺ أن تصبر([527])
البهائم([528])،
وأمر بالإحسان إليها عند الذّبح بقوله ﷺ: (( إنّ الله كتب الإحسان على كلّ
شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح، وليحدّ أحدكم شفرته
فليرح ذبيحته )) ([529]).
وتأكيداً لمبدأ الرّحمة في هذه الشّريعة
فقد حضّت أفرادها على التّراحم، وجعل ذلك من صفاتهم، ورتّبت عليه الحصول على رحمة
الله تعالى.
قال الله تعالى: ﴿
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾([530]).
وضرب المصطفى في ذلك أروع الأمثلة بقوله ﷺ: « ترى المؤمنين في تراحمهم،
وتوادّهم، وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا
اشتكى منه عضو، تداعى له سائر جسده بالسّهر والحمّى » ([531]).
وقال : « هذه
رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنّما يرحم الله من عباده الرّحماء » ([532])،
وقال: « الرّاحمون
يرحمهم الرّحمن ، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السّماء » ([533])،
وقال : « من
لا يرحم النّاس لا يرحمه الله عزّ وجلّ » ([534]).
وحكم بشقاوة من نزعت منه الرّحمة فقال ﷺ:
« لا
تنزع الرّحمة إلاّ من شقيّ » ([535]).
هذا بالإضافة بالإضافة إلى نصوص أخرى
كثيرة من الكتاب ([536]).
وسطيّة
الأمّة والشّريعة الإسلاميّة
الوسط يأتي بمعنى الخيار والأجود ، كما
يقال : قريش أوسط العرب نسبا ودارا : أي خيرها . وكان النبي ﷺ وسطا في قومه : أي
أشرفهم نسبا ، ومنه الصلاة والوسطى التي هي أفضل الصلوات ، وهي صلاة العصر ، كما
ثبت في الصحاح وغيرها .
ومنه جاء قوله تعلى : ﴿ وكذلك جعلناكم
أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ ([537]):أي
يقول الله تعالى – كما ذكر ابن كثير - : إنما حوّلكم إلى قبلة إبراهيم u
واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم ، لتكونوا شهداء على الأمم ؛ لأن الجميع معترفون
لكم بالفضل ، فالوسط ههنا الخيار والجود ([538]).
ولما جعل الله تعالى هذه الأمة وسطا
خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأضح المذاهب ، كما قال تعالى : ﴿ هو اجتباكم
وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ، وفي
هذا ، ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ﴾([539]).
2- وقيل : الوسط : العدل . جاء في
الصحاح([540])
للجوهري : " والوسط من كل شيء أعدله ، قال تعالى : ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ﴾
: أي عدلا ". يؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد قال : قال رسول الله
ﷺ : " « يدعى نوح يوم القيامة ، فيقول
: لبيك وسعديك يا رب ، فيقول : هل بلغت ؟ فيقول نعم ، فيقال لأمته : هل
بلغكم ؟ قالوا : ما أتانا من نذير ، فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته ،
فتشهدون أنه قد بلغ : ﴿ ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ . فذلك قوله جل ذكره :
﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ... ﴾ والوسط العدل » ([541]).
وفي رواية أخرى : « ... يجيء النبي يوم
القيامة ، ومعه الرجلان وأكثر من ذلك ، فيدعى
قومه ، فيقال : هل بلغكم هذا ؟ فيقول : لا ، فيقال : هل بلغت قومك ؟ فيقول
: نعم . فيقال : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته . فيدعى محمد وأمته ، فيقال لهم
: هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون : نعم . فيقال : وما علمكم ؟ فيقولون : جاءنا نبينا ﷺ
فأخبرنا : أن الرسل قد بلغوا ، فذلك قوله عز وجل : ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا ﴾ قال
: عدلا ﴿ لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾([542]).
يقول الشّاطبيّ : " الشّريعة جارية
في التّكليف بمقتضاها على الطّريق الوسط الأعدل ، الآخذ من الطّرفين بقسط لا ميل
فيه ، الدّاخل تحت كسب العبد من غير مشقّة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جارٍ على
موازنة تقتضي في جميع المكلّفين غاية الاعتدال كتكاليف الصّلاة ، والصّيام ، والحجّ
، والجهاد ، والزّكاة ، وغير ذلك ممّا شرع ابتداءً على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك ،
أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل ، كقوله تعالى : ﴿ وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا
يُنْفِقُونَ ﴾ ، ﴿ يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر ﴾([543])،
وأشباه ذلك .
فإن كان التّشريع لأجل انحراف المكلّف ،
أو وجود مظنّة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطّرفين ، كان التّشريع رادّاً إلى الوسط
الأعدل ، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ؛ ليحصل الاعتدال فيه ، فعلَ
الطّبيب الرّفيق ، يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته ، وقوّة مرضه
وضعفه ، حتى إذا استقلّت صحّته هيّأ له طريقاً في التّدبير وسطاً لائقاً به في
جميع أحواله " ([544]).
انتهى
ويقول ابن عاشور : " فالتّوسّط بين
طرفي الإفراط والتّفريط هو منبع الكمالات ، وقد قال الله تعالى في وصف هذه الأمّة
، أو وصف صدرها: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً . والوسط هو العدل ،
أي بين طرفي الإفراط والتّفريط ، وبذلك جزم المحقّقون في تفسير هذه الآية "([545]).
يقول القرطبيّ في معنى الآية : " المعنى
وكما أنّ الكعبة وسط الأرض ، كذلك جعلناكم أمّة وسطاً : أي جعلناكم دون الأنبياء
وفوق الأمم ، والوسط العدل . وأصل هذا أنّ أحمد الأشياء أوسطها…ولمّا كان الوسط
مجانباً للغلوّ والتّقصير كان محموداً : أي هذه الأمّة لم تغل غلوّ النّصارى في
أنبيائهم، ولا قصّروا تقصير اليهود في أنبيائهم "([546]).
وشرع النبيّ ﷺ لأمّته طريقاً وسطاً في
العبادة ، كما قال جابر بن سمرة رضي الله عنه : " كنت أصلّي مع رسول
الله ﷺ فكانت صلاته قصداً، وخطبته قصداً " ([547]):
أي وسطاً بين الطّويلة والقصيرة.
لذلك أرشد ﷺ وأخذ بيد من أرادوا الغلوّ ،
والمبالغة في الطّاعة من أصحابه –رضي الله عنهم-، إلى القصد والاعتدال.
يقول أنس رضي الله عنه : " جاء
ثلاثة رهط([548])
إلى بيوت أزواج النبيّ ﷺ يسألون عن عبادة النّبيّ ﷺ، فلمّا أخبروا، كأنّهم
تقالّوها ، فقالوا : وأين نحن من النّبيّ ﷺ ؟ قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما
تأخّر ، قال أحدهم : أمّا أنا فإنّي أصلّي اللّيل أبداً، وقال آخر : أنا أصوم
الدّهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبداً ، فجاء رسول
الله ﷺ فقال : « أأنتم
الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إنّي أخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكنّي أصوم وأفطر
، وأصلّي وأرقد ، وأتزوّج النّساء ، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي » ([549]).
قال ابن حجر :
" « أخشاكم » فيه إشارة إلى ردّ ما بنوا عليه أمرهم من أنّ
المغفور له
، لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره ، فأعلمهم أنّه مع كونه يبالغ في
التّشديد في العبادة ، أخشى لله ، وأتقى من الذين يشدّدون ، وإنّما كان كذلك ؛
لأنّ المشدّد لا يأمن من الملل بخلاف المقتصد ، فإنّه أمكن لاستمراره ، وخير العمل
ما داوم عليه صاحبه ، وقد أرشد إلى ذلك في قوله في الحديث الآخر: « المنبتّ
لا أرضاً قطع ، ولا ظهراً أبقى » …
والمراد مَن ترك طريقتي ، وأخذ بطريقة
غيري فليس منّي ، ولمح بذلك إلى طريقة الرّهبانيّة ، فإنّهم الذين ابتدعوا
التّشديد كما وصفهم الله تعالى ، وقد عابهم بأنّهم ما وفوا بما التزموه ، وطريقة
النّبي ﷺ الحنيفيّة السّمحة ، فيفطر ليتقوّى على الصّوم ، وينام ليتقوّى على
القيام ، ويتزوّج لكسر الشّهوة، وإعفاف النّفس، وتكثير النّسل([550]).
وهكذا أرشد عبد الله بن عمرو بن العاص رضي
الله عنه ، حين بلغه عنه ما بلغ ، وقال له: « يا عبد الله ، ألم أُخبر أنّك
تصوم النّهار وتقوم اللّيل ؟» ، فقلت :
بلى يا رسول الله ، قال : « فلا تفعل ، صم وأفطر ، وقم ونم ، فإنّ لجسدك عليك حقّاً ،
وإنّ لعينك عليك حقّاً ، وإنّ لزوجك عليك حقّاً ، وإنّ لزورك عليك حقّاً ، وإن
بحسبك أن تصوم كلّ شهر ثلاثة أيّام ، فإنّ لك بكلّ حسنة عشرة أمثالها ، فإنّ ذلك
صيام الدّهر كلّه » ، فشدّدت فشُدّد عليّ .
قلت : يا رسول الله إنّي أجد قوّة ، قال: « فصم صيام نبيّ الله داود u
ولا تزد عليه » ، قلت : وما صيام نبيّ
الله داود u
؟ قال : « نصف
الدّهر » . وكان عبد الله يقول بعدما كبر: يا ليتني قبلت
رخصة النبيّ ﷺ "([551]).
انتهى
وفي رواية : وقال لي النبيّ ﷺ : « إنّك لا
تدري لعلّك يطول بك عمر » ، قال : فصرت إلى الذي قال لي النبيّ ﷺ ، فلمّا كبرت وددت
أنّي كنت قبلت رخصة نبيّ الله ﷺ([552]).
قال النّوويّ : " وهذا من نحو ما
سبق من الإرشاد إلى الاقتصاد في العبادة " ([553]).
فبيّن النبيّ ﷺ بهذا الإرشاد المقصودَ
من الاعتدال والقصدَ في العبادة .
لذا قرّر الشّاطبيّ أنّه يعرف بالشّرع ،
وقد يعرف بغيره ، حيث يقول : " فإذا نظرت في كلّيّة شرعيّة فتأمّلها تجدها
حاملة على التوسّط، فإن رأيت ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف ، فذلك في مقابلة واقع ،
أو متوقّع في الطّرف الآخر . فطرف التّشديد – وعامّة ما يكون في التّخويف
والتّرهيب والزّجر - يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدّين. وطرف
التّخفيف – وعامّة ما يكون في الترجية والتّرغيب والتّرخيص-يؤتى به في مقابلة من
غلب عليه الحرج في التّشديد، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسّط لائحاً، ومسلك
الاعتدال واضحاً ، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه.
وعلى هذا ، إذا رأيت في النّقل من
المعتبرين في الدّين من مال عن التوسّط ، فاعلم أنّ ذلك مراعاة منه لطرف واقع ، أو
متوقّع في الجهة الأخرى ، وعليه يجري النّظر في الورع والزّهد، وأشباههما وما
قابلهما.
والتوسّط يعرف بالشّرع ، وقد يعرف
بالعوائد ، وما يشهد به معظم العقلاء ، كما في الإسراف والإقتار في النّفقات
"([554]).
انتهى .
وهذا القصد والاعتدال هو الذي عناه الله
تعالى بقوله : ﴿ وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا
تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ﴾([555]).
وبقوله: ﴿ وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلاً ﴾([556]).
وبه وصف المؤمنين فقال : ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ
يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ﴾([557])..
قال ابن كثير : " أي ليسوا
بمبذّرين في إنفاقهم ، فيصرفون فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصّرون في
حقّهم فلا يكفونهم ، بل عدلاً خياراً ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا "([558]).
وبه أمر العبد الصّالح لقمان ابنه في
المشي فقال له: ﴿ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ﴾([559]).
قال ابن كثير : " امش مشياً مقتصداً ليس بالبطيء المتثبّط، ولا بالسّريع
المفرط، بل عدلاً وسطاً بين بين "([560]).
ومن وسطيّة هذه الشّريعة أنّها أكرمت
الفرد ، وأعطته حقّ تملّك ما يصل إليه بالطّرق المشروعة، ثمّ حرّمت العدوان على
ممتلكات الأفراد بالغصب ، والسّرقة ، والغشّ ، والاحتيال ، وغير ذلك من أنواع
الكسب غير المشروع. قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾([561]).
ثمّ قال سبحانه بعد ذلك مقرّراً حقّ الرّجال والنّساء في التملّك المشروع : ﴿ وَلا
تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا
اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ([562])﴾.
وفي الوقت نفسه لم تغفل الشّريعة عن كون
الفرد يعيش في مجتمع لا بدّ له منه ، ولا يستطيع أن ينعزل عنه ، وهذا المجتمع له
حقوق تجب صيانتها والمحافظة عليها .
وقد نجحت الشّريعة الإسلاميّة في
توسّطها واعتدالها بالمحافظة على حقوق الفرد وحقوق المجتمع .
كما تمكّنت في كثير من الحالات من
التّوفيق بينها ، وإذا ما تعذّر التّوفيق بينها في بعض الظّروف الطّارئة ، قدّمت
مصلحة المجتمع وحقّه على مصلحة الفرد وحقّه ؛ لأنّ صيانة المجتمع في الحقيقة صيانة
لجميع الأفراد الذين يعيشون فيه.
فامتازت الشّريعة بذلك على القوانين
الوضعيّة التي وقعت في هذا الموضوع فريسة الإفراط والتّفريط .
فقوانين المجتمعات الشّيوعيّة
والاشتراكيّة غلت في الاهتمام بمصلحة المجتمع ، وفرّطت في حقوق الأفراد ، وتجاهلت
كرامة الإنسان ، وفطرته ونوازعه ، ورأت فيه آلة صمّاء مسخّرة لمصلحة المجتمع ،
فكانت النّتيجة لذلك البؤس والفقر والشّقاء والفشل ، وها هي الآن في آخر
الثّمانينات من هذا القرن الميلاديّ تعلن تراجعها وفشلها .
وقوانين المجتمعات
الرّأسماليّة أفرطت في الاهتمام بحرّيّة الأفراد ، ومصالحهم الشّخصيّة
، وقدّمتها في كثير من الحالات على حقوق الآخرين من أبناء المجتمع ، فكانت
النّتيجة أن وقعت أسرى الجشع والاستغلال ، وظهرت الكتل الاحتكاريّة الكبرى، التي
تحكّمت في ثروات الأمم والشّعوب ، وجعلت الأقليّة تتحكّم في أقوات الملايين من
البشر ، وضروريّات حياتهم ، بل سيطروا على مقاليد الحكم ، وتمكّنوا من توجيهها حسب
رغباتهم ومصالحهم([563]).
العـــدل
العدل لغة مصدر
عدل ، وهو خلاف الجور ، يقال : عدَل عليه في القضية فهو عادل
، وسط الوالي عدله ، ومعدِلَته ، ومعدَلَته ، وفلان من أهل المعدَلة : أي من أهل
العدل ، ويجمع على عدل وعدول([564]).
وفي الاصطلاح :
1- قيل : هو القسط والموازنة ، كما جاء
في ابن كثير .
2- وقيل : هو استواء السريرة ،
والعلانية من كل عامل لله عملا ، كما قال سفيان بن عيينة ، ومنه قوله تعالى : ﴿ إن
الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي
يعظكم لعلكم تذكرون ﴾([565])
. وقيل : العدل في هذه الآية هو : الإشهاد أن لا إله إلا الله ، قاله ابن عباس ([566]).
والعدالة ، هي : ملكة يصدر منها إقامة
النّظام العادل المُصلح في تدبير المنزل ، وسياسة المدينة ، ونحو ذلك بسهولة ،
وأصلها جبلّة نفسانيّة تنبعث منها الأفكار الكلّيّة ، والسّياسات المناسبة بما عند
الله وعند ملائكته ؛ وذلك أنّ الله تعالى أراد في العالم انتظام أمرهم ، وأن يعاون
بعضهم بعضاً ، وألاّ يظلم بعضهم بعضاً ، وأن يتألّف بعضهم ببعض، ويصيروا كجسد رجل
واحد([567]).
والله سبحانه وتعالى حكم عدل في كل
قضائه في عبده في النعم وفي النقم ، ولهذا يقال : كل نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه
عدل ([568]).
وإقامة العدل على الأرض من مقاصد
الشّريعة الإسلاميّة السُّميا ، بل نجد أنّ القرآن الكريم جعل هدف الرّسالات
السّماويّة جميعاً إقامة العدل والقسط .
والعدل أمر واجب في كل شيء من معلاملات
وجنايات : كالقصاص والدية ، وعلى كل أحد ([569]).
وجميع الأبواب من قصاص ودية ونحوهما
المقصود للشريعة فيها تحري العدل بحسب
الإمكان ، وهو مقصود العلماء ([570]).
قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾([571]) .
فدلت الآية على أنّ المقصد من إرسال الرّسل ، وإنزال الكتب هو : قيام النّاس
بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به السّماوات والأرض .
قال السّعدي : " ﴿ وَالْمِيزَانَ ﴾
وهو العدل في الأقوال والأفعال . والدّين الذي جاءت به الرّسل كلّه عدل ، وقسط في
الأوامر والنّواهي ، وفي معاملات الخلق ، وفي الجنايات ، والقصاص، والحدود،
والمواريث، وغير ذلك.
وذلك ﴿ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾
قياماً بدين الله ، وتحصيلاً لمصالحهم التي لا يمكن حصرها وعدّها ، وهذا دليل على
أنّ الرّسل متّفقون في قاعدة الشّرع ، وهو القيام بالقسط، وإن اختلفت صور العدل
بحسب الأزمنة والأحوال " ([572]).
انتهى
وقد فطر الله السّماوات والأرض بالحقّ
والعدل ؛ لتكون الأشياء كلّها بالحقّ والعدل([573]).
قال الله تعالى : ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا
فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾([574]).
ولتأكيد وتوضيح هذا المقصد العظيم ، أمر
الله تبارك وتعالى بالعدل فقال : ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾([575]).
وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾([576]).
وأمر بالعدل مع الله تعالى بإفراده
سبحانه بالعبادة والاستعانة ، لا يشرك به شيئاً :
﴿ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ ([577]).
والعدل في الأقوال : ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾([578]).
والعدل في الشّهادة : ﴿ وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّه ﴾([579]).
والمتتبّع لأحكام الشّريعة ، يجد أنّها
توخّت العدل في كلّ مجالاتها : في البيوع والمبادلات ، والزّواج والطّلاق ،
والجنايات والسّياسات ، والعلاقة بين الفرد والفرد ، والفرد والأسرة ، والفرد
والمجتمع ، والفرد والحكومة ، وبين الدّولة المسلمة وغيرها من الدّول الأخرى ، مسلمة
ومحاربة .
فالعدل مقصد شرعيّ أساسيّ لا يفرّط فيه
بحال من الأحوال…
وفي مقابل ذلك تمنع الشّريعة الظّلم
بكلّ صوره ، وفي كلّ المجالات ، وتقف مع المظلوم ضدّ الظّالم ، أيّاً كان هذا
الظّالم، وخصوصاً إذا كان المظلوم مستضعَفاً ، كالمحكوم مع الحاكم ، والفقير مع
الغنيّ ، والعامل مع ربّ العمل ، والمرأة مع الرّجل ، والصّغير مع الكبير ،
والغريب مع صاحب الدّار ، والذّمّيّ أو المستأمن مع المسلم .
وليس معنى نصرة الضّعيف هنا هو الانحياز
بالباطل له دائماً ، فهذا لا يقبله منطق الإسلام ، الذي يرفض فلسفة الصّراع
الطّبقيّ : ﴿ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى
بِهِمَا ﴾ ([580]).
فالإسلام عدل الله للجميع ، وقد يكون القويّ محقاًّ ، والضّعيف مبطلاً([581]).
فلذلك العدل ينبغي أن يتقدمه علم ؛ إذ
من لا يعلم لا يدري ما العدل . والإنسان ظالم جاهل إلا من تاب الله عليه ، فصار
عالما عادلا .
وفي الحديث : في
القضاة ثلاثة : قاضيان في النار ، وقاض في الجنة
: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ، ورجل قضى للناس على جهل فهو في
النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه ، فهو في النار . وكل رجل حكم بين اثنين فهو
قاض ، كما صرح ابن تيمية([582]) .
أ- العدل الاجتماعي :
هو تساوى الناس في الحقوق وفي الواجبات
، على اعتبار : أنه لا يُحرم أحد من حق يناله غيره إذا قام بمثل ما قام به الآخر([583])
.
وذلك مثل : ما يتعلق بتوزيع الثروة
وتوزيع الفرص في التعليم والتوظيف والكسب وغيرها ([584]).
فالمساواة في كل
شيء - كما زعمت الشيوعية - ليست عدلا ؛ إذ لا يستوي العالم والجاهل ، ولا النشيط الكسلان ، ولا الذكي والغبي ، وعليه
فبعض المساواة عد لا شك فيه ، وبعضها كذلك
ظلم لا شك فيه ؛ لأن مساواة من يستحق بمن لا يستحق هي الظلم بعينه .
الإسلام يشيد بالعدل ويوجبه ، ويكرر
الدعوة إليه : يوجبه بين العدو وعدوه ، فقال تعالى : ﴿ لا يجرمنكم شنئان قوم على
أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ﴾([585]) .
ويوجبه بين الغريب والقريب ، وبين الغني
والفقير ، فقال تعالى : « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو
على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ، فلا
تتبعوا الهوى أن تعدلوا .. ﴾([586]).
ويوجبه في المعاملات وفي الأحكام ، فقال
: ﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن
تحكموابالعدل ﴾ ([587])
.
ويوجبه في دعوة الأنبياء والهداية ،
فقال : ﴿ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم ، وقل آمنت بما أنزل الله
من كتاب ، وأمرت لأعدل بينكم ﴾([588]) .
ولا يسوى الشارع
بين جائر وعادل ، فقال : ﴿ هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل ، وهو على صراط
مستقيم ﴾([589])
. فالمساواة التي يقبلها الإسلام هي التساوى في العدل المطلق ، وكذلك أجاز ﷺ على من سأله عن كلمة تجمع معاني الإسلام بتلاوة قوله
تعالى : ﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ﴾([590]) .
ولا ريب أنّ العدل بين الزّوجات في
النّفقة والقسمة ونحوهما من العدل الاجتماعيّ ، وقد أمر الله تبارك وتعالى به ،
وجعله شرطاً في إباحة التعدّد فقال : ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي
الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾([591]).
والعدل المأمور به هنا : هو الظّاهريّ
المستطاع للبشر ، وليس العدل في الميول والعواطف الذي لا يملكه الإنسان ، وقد أشار
المولى إلى ذلك بقوله : ﴿ وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ
وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ﴾
([592]).
يقول ابن كثير:
" أي لن تستطيعوا أيّها النّاس أن تساووا بين النّساء من جميع الوجه ، فإنّه
وإن وقع القسم الصّوريّ ليلة وليلة ، فلا بدّ من التفاوت في المحبّة والشّهوة
والجماع" ([593]).
وقد ثبت أنّ النبيّ ﷺ كان يقسم بين
نسائه ، ويعدل في ذلك ، ويقول: « اللهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما
تملك ولا أملك » ([594]).
وأوعد من جار بين نسائه بقوله ﷺ: « من كانت
له امرأتان ، فمال إلى إحداهما ، جاء يوم القيامة وشقّه مائل » ([595]).
وهكذا أمر الشّرع الآباء بالعدل بين
الأولاد ، ففي الصّحيحين عن النّعمان بن بشير – رضي الله عنهما – قال : أتى بي أبي
إلى رسول الله ﷺ فقال : إنّي نحلت ابني هذا غلاماً ، فقال: « أكلَّ
ولدك نحلت مثله ؟ » ، قال : لا ، قال : « فارجعه
! » ([596]).
وفي رواية: « أعطيت سائر ولدك مثل
هذا ؟ » ، قال: لا ، قال: « فاتّقوا الله ، واعدلوا بين أولادكم » ، قال : فرجع فردّ عطيّته ([597]).
والعدالة بهذا الاعتبار هي الاستقامة :
أي أن يسير كل شيء في النهج الذي وضع فيه ولا ينحرف عنه ([598]).
فهذا ما يسمى بالعدل الاجتماعي .
ب- العدل الدولي
أما العدل الدولي : فهو التساوي بين
الدول في علاقاتها : الواحدة مع الأخرى ؛ لأن الإسلام جعل المودة والرحمة هما أساس
الأخوة الإنسانية التي هي الصفة الأولى للمؤمنين ، ولذلك فسر كثير من الشارحين «
الأخوة » في قوله ﷺ : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » بالأخوة الإنسانية
، لا محض أخوة في الدين . فلا يكمل إيماننا إلا إذا تفتحت قلوبنا لمحبة الآخرين
المخالفين لنا ، وللرغبة في أن ينالوا من خير الدنيا والآخرة مثل ما نلنا ، وما
نحب لأنفسنا أن تناله ، ما دام لم يعتدوا علينا :
فالذين لم يعتدوا علينا في ديننا ولم
يخرجونا من ديارنا ولم يستولوا على أراضينا يجب أن نقوم بكل ما ينبغي من أنواع
البرور والقسط معهم وأن نعدل في معاملتهم .
وأما الذين اعتدوا علينا في ديننا
ومنعونا من التمتع بعقيدتنا وتآمروا على إخراجنا من ديارنا ، فيجب أن لا نجعل معهم
صلة ولاية ولا قرابة ، قال تعالى : ﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في
الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبَرُّوه وتُقْسِطوا إليهم إن الله يحب المقسطين .
إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على
إخراجكم أن توَلَّوهم ... ﴾([599]).([600])
فالملاحظ من المقارنة بين الآيتين : إن
الله تعالى أمر بالبرور والقسط مع الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا ... ، ولم ينه
عنهما حتى مع الذين قاتلونا وأخرجونا وظاهروا على إخراجنا : كل ما هنالك أنه نهانا
أن نتخذهم أولياء لنا ، بل إن الأمر بالبرور والعدل لا يزال قائما ومطلوبا لأن
الله تعالى قال : ﴿ ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى
﴾([601]).
فالعدل الدولي يقتضي أن لا يكون هناك
قتال بين الدول ، وإذا وقع بين دولتين إسلاميتين مثلا ، فينبغي الصلح بينهما . فإن
بغت إحداهما فتقاتل الباغية حتى تفيء إلى أمر الله . والتعبير بالصلح يشير إلى أنه
ليس المقصود بالعد : الإسراف في معاقبة المعتدي ، وإنما الإصلاح بما يسد الخسائر
ويضمد الجروح ، ويساعد على نسيان الواقع بين الطرفين.
ولا شك أن العالم في نظر الإسلام : إما
مسلم ، أو معاهد ، أو عدو .
فالمسلمون في ديارهم إخوان لا فرق لعربي
على أعجمي إلا بالتقوى . وكذلك غير المسلمين ممن يقيم على أرض الإسلام ويرضى
بحكمهم وينضم تحت لوائهم ، فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين . فعلى الدولة
أن تحميهم من جَوْر داخلي أو خارجي بنفس الدرجة التي تمنحها للمواطنين المسلمين .
وأما المعاهد :
فيجب الوفاء بعهده ، ومعاملتهم بمقتضى ما التزمنا له به ، قال تعالى
: ﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ﴾([602])
بل أوجب الإسلام على المسلمين نصرة الذين يستغيثون بهم من إخوانهم إلا على القوم
الذين بينهم وبين المسلمين تعاهد وميثاق ، فلا تجب النصرة حينئذ .
وأما الثالث : - وهم الأعداء – فقد أوجب
الشارع أن يفرض عليهم الدعوة إلى الإيمان أو المسالمة والدخول في العهد ، أو
القتال والمناولة ، حتى عند المنازلة أو جب الشارع على المسلمين أن يكون عدولا فيه
، فلا يقتل صبي ولا معاهد ولا امرأة ، ولا رجل دين لا يقاتل ، ثم يستمر الحرب إلى
مدتها ، فهي ضرورة تقدر بقدرها ، فإذا التزموا الدعوة أو طلبوا المسالمة ؛ فإن
علينا أن نتخلى عن القتال ﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ﴾ .
تلك هي الأسس التي
بنى عليها الإسلام العلاقات الدولية الداخلية والخارجية ، وهي
:
1- العدل الكامل .
2- والإخاء بين
المؤتمنين .
3- والمودة والرحمة
مع المخالفين غير المسلمين المسالمين .
4- والكفاح من أجل
إقرار مبادئ الحرية الدينية ، وحسن الجوار مع المحاربين .
والعدل نفسه مفهوم اجتماعي : كالحق
يحتاج إلى إقامة سلطة يتمتع الناس داخل نطاقها بالحق والعدل . فشرع القضاء في
الإسلام ليكون عونا على تنفيذها ما أراده من عدل ومن ضمان للسلام الداخلي والخارجي
.
جـ - العدل في القضاء :
العدل وعدم الجور
من المطالب الأساسيّة في القضاء ، به يتحقّق المغزى من نصب الحكّام .
ولذلك قد أمر الله تعالى الحكام أن
يحكموا بالعدل وذكر في آيات عدّة أنه سبحانه وتعالى يحب المقسطين ، فمنها :
قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾([603]).
وقوله: ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾([604]).
وقوله: ﴿ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ ([605]).
وقال ﷺ : « إنّ أحبّ النّاس إلى الله يوم
القيامة ، وأدناهم منه مجلساً ، إمام عادل . وأبغض النّاس إلى الله ، وأبغضهم منه
مجلساً ، إمام جائر » ([606]).
كما حذّر وأوعد بالوعيد الشّديد من يقضي
بغير الحقّ ، فقال تعالى : ﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ
حَطَباً ﴾ ([607]).
وقال ﷺ : « القضاة ثلاثة : واحد في الجنّة ،
واثنان في النّار ، فأمّا الذي في الجنّة ، فرجل عرف الحقّ فقضى به ، ورجل عرف
الحقّ فجار في الحكم فهو في النّار ، ورجل قضى للنّاس على جهل فهو في النّار » ([608]).
واتّفق الفقهاء على اشتراط العدالة فيمن
يتولّى القضاء([609])؛
لأنّه أمانة عظيمة ، فهي أمانة الأموال والأبضاع والنّفوس ، ولا يقوم بوفائها إلاّ
من كمل ورعه ، وتمّ تقـواه([610])
،
وفاقد العدالة لا
يمكن له بذلها بين الخصوم والمتاقضين .
قال ابن عبد البرّ : "لم يختلف
العلماء بالمدينة وغيرها - فيما علمت - أنّه لا ينبغي أن يتولّى القضاء إلاّ
الموثوق به في دينه وصلاحه" ([611]).
ويقول ابن عاشور: " وقد ظهر أنّ
مقصد الشّريعة من القاضي إبلاغه الحقوق إلى طالبيها ، وذلك يعتمد أموراً : أصالة
الرّأي ، والعلم ، والسّلامة من نفوذ غيره عليه ، والعدالة…وأمّا العدالة فإنّها
الوازع عن الجور في الحكم ، والتّقصير في تقصّي النّظر في حجج الخصوم ؛ فإنّ
القضاء أمانة ، ولذلك قرنه الله تعالى بالأمانات في قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ
أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْل ﴾([612]). ولذلك
قال علماؤنا : « العدالة شرط في صحّة ولاية القضاء » ([613]).
وللقضاء واختصاصه الواسع في كل القضايا
التي تصل إليه ، سواء أكانت بين الأفراد أو بين الجماعات ، أو بين الطوائف ، أو
بين الدول ومع احترام الإسلام لحق الطوائف في أن تتحاكم إلى محاكمها الملية في
شئونها الطائفية ، فإنه أعطاها الحق في اللجوء إلى القضاء الإسلامي إذا اتفقت على
ذلك ، أو اختلفت المذاهب الطائفتين ، أو كان الأمر غير ذات صفة طائفية .
فالقضاء بهذا الاعتبار أداة الإسلام بين
الناس ، ولإصلاح والسلام بين الطوائف ، والجماعات
والدول ؛ لأنه كان حاسما ومخلصا في حل المشاكل التي تفرض بيننا وبين غيرنا
.
يدل على ذلك ما أمر الله تعالى نبيّه ﷺ
بالعدل بين اليهود والنّصارى إذا تحاكموا إليه فقال تعالى: ﴿ فَإِنْ جَاءُوكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ
يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾([614]).
وكذلك ما روي عن قتيبة بن مسلم : أنه
فتح بعض أقاليم سمرقند دون أن يخير أهل
الإقليم بين الإسلام ، أو العهد ، أو القتال ، فاشتكوا إلى الإمام العادل عمر بن
العزيز ، فأرسل عمر إلى القاضي وأمره أن ينظر في أمرهم . فنظر القاضي في
ذلك ، واتضح له صدق ما قالوه ، فأصدر الأمر إلى عسكر المسلمين بالانسحاب من البلاد
التي فتحها ، ثم يخيرون بين الثلاثة ، فاختاورا العهد ، فقبل ذلك منهم .
وأمر النبيّ ﷺ القضاة بالعدل بين الخصوم
، في الحكم والمجلس والنّظر ، فقال: « من ابتلي بالقضاء بين النّاس، فليعدل بينهم
في لحظه وإشارته ومقعده » ([615]).
وأرشد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى
ذلك حين ولاّه القضاء باليمن فقال له : « فإذا جلس بين يديك الخصمان ، فلا
تقضينّ حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل ؛ فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء » ([616]).
وممّا يؤكّد عدالة الإسلام في الحكم
والقضاء ، عدم تفريقه بين الشّريف والوضيع في الأحكام، وقد قال ﷺ حين شفع أسامة في
القرشيّة التي سرقت : « يا أيّها النّاس إنّما ضلّ
من قبلكم ، أنّهم كانوا إذا سرق الشّريف تركوه ، وإذا سرق الضّعيف فيهم أقاموا
عليه الحدّ، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها » ([617]).
ولحرص الشّارع على تحقيق العدل في
الأقضية ، وتفادي الجور فيها نهى القاضي عن الحكم
بين الخصمين حالة الغضب ، فقال ﷺ : « لا يقضينّ حكم بين اثنين وهو غضبان » ([618]).
وألحق به الفقهاء –رحمهم
الله- كلّ ما يشوّش البال([619]).
ورتّب على العدل نيل الدّرجة العالية ،
والمكانة الرّفيعة عند الله تعالى ، فقال ﷺ: « إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور ، عن
يمين الرّحمن –عزّ وجلّ- وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم
وما ولوا » ([620]).
وهذا يوضح استقلال القضاء في الإسلام عن
السياسة ، واعتماده على مقتضى أصول الشريعة ومقاصدها ، وليس على هواء الحاكم وغرضه
.
وقد وضح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في
رسالته إلى أبي موسى الأشعري أسس القضاء في الإسلام ، وواجبات القاضي العادل بعد
ما عرف أن القضاء فريضة محكمة ، أو سنة متبعة على النحو التالي :
1- أن يسوي القاضي
بين الناس بوجهه وتحكيمه وعدله حتى لا يطمع شريف في حقه ، ولا ييأس ضعيف من عدله .
2- البينة على المدعي
، واليمين على من أنكر .
3- الصلح جائز إلا
صلحا أحل حراما أو حرم حلالا .
4- مرجعة الحق خير من
التمادى في الباطل ، فليس هناك ما يمنع من أن يرفع القاضي إلى الحق في قضاء قضاه
بالأمس .
5-
ضرورة الفهم فيما تلجلج في صدر القاضي مما ليس مقصودا عليه في كتاب ولا سنة
. ثم تفرق للأمثال والأشباه ، وقياس الأمور على نظائرها .
كل هذا يبين أن العدل من أسمى مقاصد
الشريعة الإسلامية وأهمها على الإطلاق ، سواء أكان عدلا فرديا أو اجتماعيا ، أم
دوليا ، أم في القضاء والحكم ([621]).
ولو أردنا أن نتتبع عدل القضاة والحكام
في الإسلام لوجدنا الكثير والكثير ، خاصة في سيرة الخليفة العادل عمر بن الخطاب ([622]).
([7]) الإفراط في تخويل ذي الحق حقه ، أي باعطائه
أكثر من حقه . والتفريط يكون بالإجحاف له من حقه وإعطائه أقل من حقه وكلاهما جور .
تحقيق على ابن عاشور ص131.
([10]) ينظر : المعجم الوجيز ص503 طبع مجمع اللغة
العربية بمصر ، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/95، والصحاح للجوهري 2/524،
والمحكم المحيط لابن جني 6/116.
([22]) كالشيخ محمد علي السايس ، والشيخ عبد الرحمن
تاج في تاريخ التشريع ص8-9، والمقاصد العامة للتشريع د/ يوسف العالم ص19-20.
([41]) ما يختص بالصيام قوله تعالى : ] كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [
﴿ البقرة : 183 ] . وما يختص بالحج قوله تعالى : ] وأذن في الناس في الحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج
عميق . ليشهدوا منافع لهم ... [
﴿
الحج : 27 ، 28 ] .
([47]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح باب من
استطاع الباءة فليتزوج, وباب من لم يستطع الباءة فليصم 9/106، 112، حديث (5065)
(5066).
([53]) الإمام الرازي توفي سنة 606 هـ ، والآمدي توفي
سنة 631 هـ ، والعز بن عبد السلام توفي سنة 660 هـ.
([54]) قواعد
الأحكام للعز بن عبد السلام 1/7، 12، 23، 32، 33، 40، 41، 45، وما بعدها ، ومقاصد
الشريعة لليوبي ص55 وما بعدها .
([56]) الموافقات للشاطبي 2/8 وما بعدها ، 64 وما
بعدها ، 107 وما بعدها ، 168 وما بعدها ، 323 وما بعدها ، ط : دار الكتب العلمية
بيروت، بتحقيق الشيخ عبد الله دراز .
([57]) المقاصد العامة للتشريع ليوسف العالم ص107 ،
ومقاصد الشريعة لابن عاشور ص188 ، والاعتصام للشاطبي 3/252 .
([65]) تخريج المناط : هو استخراج علة معينة للحكم
ببعض الطرق المثبتة للعلية كالمناسبة والإيماء ونحوهما. وكاستخراج علة الطعم أو
القوت أو الكيل بالنسبة إلى تحريم الربا.
([66]) تنقيح المناط : هو أن يكون الوصف المعتبر في
الحكم مذكوراً مع غيره من الأوصاف فينقح بالاجتهاد الوصف المعتبر الصالح للعلية من
غيره الملغي ، فيرتب الحكم على المعتبر دون الملغى . يراجع بحوث في الاجتهاد
للمؤلف ص60 وما بعدها. ط: مطبعة الأمانة.
([68]) أي : أن المجتهد إذا وجد حكماً ولم يعرف علته
ولا مقصد الشارع فيه ، فإنه يحكم به على أنه حكم تعبدي ؛ لعدم معرفته علته ، فكلما حصل له علم
بمقاصد الشريعة وعللها كلما قلت عنده الأحكام التعبدية.
([69]) مقاصد الشريعة لابن عاشور ص184، 188، والموافقات
2/ ، والاعتصام للشاطبي 3/201-202،
والمقاصد العامة للتشريع للدكتور يوسف العالم ص107-109.
([72]) قولي : النص المعلل لا مفهوم له؛ لأن النصوص
غير المعللة من أوامر ونواهي يُعْرَف منها قصد الشارع أيضاً عند الإتيان بالفعل في
الأمر ، والكف عنه في النهي ، فلو خالف مقتضى الأمر والنهي لخالف مقصد الشارع ،
غير أن مقصد الشارع في النص الصريح المعلل أظهر وأوضح من هذا .
([86]) المرجع نفسه 7/322، 323، حيث ورد التعليل بلفظ
الخطاب للرجال في رواية ابن عدي نسب القطع إلى الرجل ؛ لأنه السبب وأضيف إليه
الرحم لذلك. وفي رواية ابن حبان : « إنكن إذا فعلتن ذلك قطعتن أرحامكن » .
([99]) القاضي شريح من كبار التابعين ، روى عن عمر
وعلي وعبد الرحمن بن أبي بكر، عاش بالكوفة وأقام بها وتوفي سنة 78هـ، وقد أخذ أبو حنيفة الفقه عنه بواسطة حماد، وحماد عن
إبراهيم النخعي والشِّعبي عن القاضي شريح ، ولعل الإمام مالكا يقصد أنه لم يكن
مقيماً بالمدينة ليرى آثار الأكابر من أزواج النبي r وأصحابه .
([114]) أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الأضاحي ، باب ما
كان من النهي عن لحوم الأضاحي 3/561 حديث رقم (28) .
والدافة
: هم القوم الذين قدموا المدينة في عيد الأضحى . أي : لأجل الحاجة إلى الإطعام في
ذلك الوقت .
([147]) مقاصد الشريعة لابن عاشور ص235 وما بعدها،
وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/189، راجعه وعلق عليه طه عبد الرؤوف –
القاهرة ، أم القرى للطباعة والنشر.
([158]) المرجع نفسه كتاب الحج باب تخمير المحرم وجهه
2/233 حديث 732 مع شرح الزرقاني. ويراجع مقاصد الشريعة لابن عاشور ص255.
([162]) أخرجه البخاري في صحيحه 3/277، 278، كتاب
الجهاد والسير. ومسلم في صحيحه كتاب الإمارة 3/1496 حديث 1876.
([170]) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه 1/23
حديث (52). ثم راجع مقاصد الشريعة ومكارمها لابن عاشور ص273، 276.
([218]) جاء في صحيح البخاري ص/219 ح (3892) أن عبادة
بن الصامت قال : كنا مع رسول الله r
في مجلس فقال : « تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا
تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ... » الحديث .
([232]) مقاصد الشريعة للدكتور اليوبي ص/194 ، 195 ،
والتعليل بالمصلحة للدكتور رمضان عبد الودود ص/118 ، 119.
([241]) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الإيمان ، باب
فإن تابوا وأقاموا الصلاة ح (25) ، ومسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال
الناس حتى يقولوا : ... ح 36-(22) من حديث ابن عمر .
([247]) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الإيمان ح (48)
، ومسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان ح 116-(64) من حديث ابن مسعود .
([256]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 2/91 ، وابو داود
في سننه 3/327 ح (3681) ، والترمذي في جامعه 4/292 ح (1865) وابن ماجة في سننه
2/1124 ح (3392) .
([257]) راجع مقاصد الشريعة لليوبي ص/235 وما بعدها
لمعرفة الأمثلة المؤكدة لذلك ، من ذلك :
ما
أخرجه النسائي في سننه 8/315 ح(566) عن عثمان بن عفان أنه قال :
"
اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ! إنه كان رجل ممن خلا قبلكم أحبته امرأة غَوِيّة
فأرسلت إليه جاريتها فقالت له : إنا ندعوك للشهادة ، فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى
أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية – أي الإناء – خمر فقالت : إني
والله ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع عليَّ أو تشرب من هذه الخمرة كأسا ، أو تقتل هذا الغلام ، فقال : فاسقيني من هذا الخمر
كأسا ، قال : زيدوني فلم يرم حتى وقع عليها ، وقتل النفس ، فاجتنبوا الخمر فإنها
والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه ".
وما
حدث لحمزة بن عبد المطلب بعد إسلامه وقبل تحريم الخرم . أخرج القصة مسلم في صحيحه
، كتاب الأشربة ، باب تحريم الخمر 3/1566 ح ( 1 ، 2 ) .
([260]) من المحدثين والدكتور عبد الله قادري. انظر : الإسلام
وضرورات الحياة ص/90 ، مقاصد الشريعة لليوبي ص/249.
([264]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/158 ، 245 ، وأبو
داود في سننه 2/220 ح (2050) ، والنسائي في سننه 6/64 (3227) .
([275]) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب النكاح 9/106 ح
(5065 ، 5066) ، ومسلم في صحيحه ، كتاب النكاح حديث رقم 1-(1400) .
([276]) فتاوى العز بن عبد السلام ص/154 ، ومجموع فتاوى
ابن تيمية 32/271 ، ومقاصد الشريعة لليوبي ص/266 .
([279]) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الديات 12/246
ح (6904) ، ومسلم في صحيحه ، كتاب القسامة ، باب دية الجنين 3/1309 ح (34) من
حديث أبي هريرة : " أن امرأتان من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها ،
فقضى رسول الله r
بغرة عبد أو أمة ".
([280]) هناك من رخص الإجهاض للمرأة وإسقاط ما في بطنها
بشرط : أن لا ينفخ فيه الروح وألحقوه بالعزل ، حكاه ابن رجب عن طائفة من الفقهاء ،
غير أنه ضعفه ؛ لوجود الفارق بين الإجهاد الذي انعقد فيه الجنين وربما تصور ، وبين
العزل الذي لم يوجد له ولد بالكلية .
وقال ابن حجر : " وينتزع من حكم العزل
حكم معالجة المرأة إسقاط النطفة قبل نفخ الروح : فمن قال بالمنع هناك – أي في
العزل – ففي هذا أولى . ومن قال : بالجواز يمكن أن يلتحق به هذا . ويمكن أن يفرق
بينهما بأن الإجهاد أشد من العزل " ( فتح الباري 9/310 ) .
غير
أني أرى أنه إذا كانت هناك ضرورة تقتضي إسقاط الجنين قبل نفخ الروح ، بأن قطع
الطبيب مسلم عادل بأن في بقائه مضرة شديدة له أو لأمه فلا مانع منه حينئذ .
([288]) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الحرث والمزارعة
5/3 ح (2320) ، ومسلم في صحيحه ، كتاب المساقاة 3/1189 ح (7 – 12) .
([302]) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الحدود ، باب
كراهية الشفاعة في الحد 12/87 ح (6788) ، ومسلم في صحيحه ، كتاب الحدود ، باب قطع
الشريف وغيره 3/1315 ح (8) .
([303]) أخرجه
البخاري في صحيحه ، كتاب المظالم ، باب من قاتل دون ماله 5/123 ح (2480) ، ومسلم
في صحيحه ، كتاب الإيمان ، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره ... 1/124 ح
(226) .
([305]) أخرجه
البخاري في صحيحه ، كتاب الحج 3/573 ح ( 1739 ) ، ومسلم في صحيحه ، كتاب القسامة
باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال 3/1305 ح (9) .
([306]) ويمكن أن
يناقش دليل من جعل العرض من الضروريات :
بأنه لا يلزم من اقتران الأعراض بالأموال
والدماء في الحديث أن تكون من الضروريات ؛ لضعف دلالة الاقتران عند الأصوليين ؛ إذ
يجوز أن يقرن ما هو ضروري بما ليس في مرتبة الضروريات .
وأما القول بأن من عادة العقلاء فداء
أعراضهم بأنفسهم ، فإنا نقول :
ليس كل الأعراض تفدى بالأنفس عند العقلاء ،
فالأعراض التي تكون بالقذف والزنا فهي التي تفدى بالنفس ، وهذا راجع إلى حفظ النسل
والنسب . وأما الأعراض التي هي السب والشتم البسيط : كوصفه بالبخل أو الظلم ، فهذا
لا يفده العقلاء بأنفسهم ، إنما هو البلهاء فقط . ( مقاصد الشريعة لليوبي ص/278 )
.
([309]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم 4/192 ح (1954) ،
ومسلم في كتاب الصيام ، باب قضاء الصيام عن الميت 2/804 ح (154 – 155) .
([310]) يمكن أن يجاب عن هذا : بأنه يمكن أن يسلم ما
تقولون لو كان تقديم حق الآدمي لا يؤدي إلى تفويت حق الله تعالى بالكلية ، أما إذا
كان يُفوِّت حق الله تعالى ، فحق الله هو المقدم لا محالة .
([311]) ويمكن أن يجاب عن هذا : بأنه إنما قتل قصاصا
إذا لم يعف عنه ولي الدم لأمور :
1-
لأن بالقتل قصاصا يتحقق حق الآدمي - وهو الثأر لوليه والتشفي – وحق الله تعالى .
ولأن النفس ليس حقا محضا للعبد بدليل أنه لا يجوز له قتل نفسه . فالقتل قصاصا
اجتمع فيه الحقان ، لا حق واحد ، بخلاف ما إذا
قتل للردة ، فإنه لا يتحقق إلا مقصود واحد فقط ، وهو حق الله . والجمع بين الحقين
أولى ، فهو ليس تقديما لحق الآدمي كما قيل !؟.
2-
أن تقديم حق الآدمي هنا لا يفضي إلى تفويت حق الله تعالى فيما يتعلق بالعقوبة
البدنية ؛ لأن المقتول قصاصا ستبقى عليه العقوبة الأخروية على ردته ، بخلاف تقديم
حق الله تعالى ، وهو القتل ردة ، فإنه يفضي إلى فوات حق الآدمي من العقوبات
البدنية من التشفي والثأر ، فكان تقديم حق الآدمي أولى .
3-
وعلى كل حال فلن يعفى من القتل ؛ لأنه لو عفى عنه أولياء المقتول ، فسيقتله الإمام
للردة .
([312]) ويمكن أن
يجاب عنه : بأن إبقاء الذمي على كفره بين أظهر المسلمين ليس فيه مصلحة دنيوية فقط
، بل فيه مصلحة أخروية دينية ، وهي لاطِّلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين ،
ليسهل انقياده ودخوله في الدين . وذلك من مصلحة الدين لا من مصلحة غيره .
([313]) ويمكن أن
يجاب عنه : بأن مشقة صلاة ركعتين للمسافر كمشقة صلاة أربعة للمقيم ، فلا مصلحة في
ركعتين. بالإضافة إلى أن في أداء المسافر لركعتين مصلحة دينية ، هي المحافظة على
الصلاة حتى في وقت السفر ، والتيسير للدين أيضا . وكذلك صلاة المريض قاعدا بالنسبة
إلى صلاته قائما وهو صحيح ، ففيه مصلحة للمريض والدين معا .
([314]) ويجاب عنه
: بأن ترك الصلاة من أجل إنقاذ الغريق والمريض فيه محافظة على النفس والدين ؛ لأن
النفس ليست حقا خالصا للعبد ، ولأن تقديمه لا
يفوت حق الدين . ( يراجع مقاصد الشريعة لليوبي ص/307 – 310 .
([316]) ( مسألة ) : إذا تعارض قياسان كل منهما
يدل بالمناسبة « أي العلة » على تقديم مصلحة : إحداهما متعلقة بالدِّين ، والثانية
متعلقة بالدنيا ؛ قُدِّم ما يتعلق بالدين ؛ لأن الثمرة الدينية للعلة هي السعادة
الأبدية لا يعاد لها شي ، جزم به فخر الدين الرازي والآمدي .
وحكى ابن الحاجب قولا : إن المصلحة الدنيوية
مقدمة على الدينية ؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحنة ، وحق الله مبني على
المسامحة .
وتفرع
على هذا فروع منها :
·
إذا اجتمعت الزكاة والدين في تركة وضاق
المال عنها ففيه أقوال :
1- أصحها : تقديم
الزكاة على الدين ؛ عملا بالقاعدة ، وقياسا على تقديم الزكاة في حال الحياة ويصرف
الباقي إلى الغرماء .
2- عكسه ، يقدم
الدين على الزكاة ؛ قياسا على تقديم القصاص في الجرح العمد على حد السرقة ؛ لأن
القصاص حق ولي المقطوع ، والثاني حق الله .
3- بالخيار ؛
لاستوائهما .
وهذه
الأقوال في الدين الحال لا المؤجل ؛ لأن الدين المؤجل تقدم عليه الزكاة قولا واحدا
.
·
كذلك إذا اجتمع دين ونذر ، أو دين
والكفارة ، يجري فيه الخلاف .
·
وإذا اجتمع دين وحج فيه الأقوال الثلاثة
حكاها ابن الرفعة وغيره من الشافعية .
·
وكذا إذا اجتمع دين وجزية فيه الأقوال
الثلاثة : الصحيح القطع بالتسوية ، ومقابله يجري الخلاف .
([318]) حيث قال الأنصاري : " والضروري حفظ الدين
فالنفس فالعقل فالنسب فالمال فالعرض ". ( لب الأصول مع شرح غاية الوصول ص/123
وما بعدها .
([332]) أخرجه أحمد في مسنده 2/381 ، والبخاري في أدب
المفرد ( صحيح أدب المفرد ص118 رقم207 ) ،
وابن سعد في الطبقات 1/192 ، والحاكم في المستدرك 2/613 من حديث أبي هريرة مرفوعا
به .
وقد
رواه مالك في الموطأ 2/904 بلاغا بلفظ : « ... حسنَ الأخلاق » .
انظر
: سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/112 ، صحيح الجامع الصغير 1/464 ، صحيح أدب المفرد
118.
([341]) صحيح مسلم ، كتاب الحج ، باب الوقوف ، وقوله
تعالى : ] ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس [ 2/894 (152).
([343]) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب ) فسيحوا في الأرض ( رقم (4655) ،
ومسلم في صحيحه ، كتاب الحج ، باب لا يحج البيت مشرك حديث رقم (435) .
([347]) كما يرى شيخ الإسلام ابن تيمية ، فقال : "
فالكتابة : بيعه نفسه بماله في ذمته ، ثم إذا اشترى نفسه كان كسبه له ونفعه له ،
وهو حادث على ملكه الذي استحقه بعقد الكتابة ، لكن لا يعتق فيها إلا بالإذن ...
". ( مجموع فتاوى 20/530 )
كذا قاله أيضا ابن القيم ، ثم قال : "
ومن تمام حكمة الشارع أنه أخر فيها العتق إلى حين الأداء ؛ لأن السيد لم يرض بخروجه
عن ملكه إلا بأن يسلم له العوض . فمتى لم يسلم له العوض وعجز العبد عنه ؛ كان له
الرجوع في البيع . فلو وقع العتق لم يمكن رفعه بعد ذلك ، فيحصل السيد على الحرمان
، فراعى الشارع مصلحة السيد ومصلحة العبد ، وشرع الكتابة على أكمل الوجوه وأشدها
مطابقة للقياس الصحيح . وهذا هو القياس في سائر المعاوضات ، وبه جاءت السنة الصحيحة
الصريحة التي لا معارض لها : أن المشتري إذا عجز عن الثمن كان للبائع الرجوع في
عين ماله ... ". ( إعلام الموقعين 1/453 ، 454 )
قال اليوبي بعد إيراد كلام شيخ الإسلام :
" وبهذا يظهر أن ما يكسبه العبد لاحِقًا لا حَقَّ للسيد فيه ، وليس من ملكه
حتى يقال : إنه باع ملكه بملكه . ( مقاصد الشريعة لليوبي ص/334 ) .
([362]) ابن عاشور ص/314 . وإذا كان هذا الحال في زمن القيرواني
في القرن الرابع الهجري ، فما بالكم بزمننا !!!
([389]) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الأدب ، باب لا
يسب الرجل والديه حديث (5973) ، ومسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان ، باب بيان الكبائر
وأكبرها حديث (146) .
([405]) قواعد الأحكام ص/326 -327 مع بعض التصرف في
العبارات الأخيرة . وانظر : مقاصد الشرعية لابن عاشور ص/382 ، 383 .
([410]) الموطأ ، كتاب الجامع ص/651 . وفي صحيح مسلم
1/70 رقم 59-(36) عن ابن عمر : سمع النبي r رجلا يعظ أخاه في الحياء ، فقال : « الحياء من الإيمان » .
([411]) أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان ، باب بيان
عدد شعب الإيمان برقم 57-(35) ، وفي لفظ : « الإيمان بضع وسبعون أو وستون شعبة ،
فأفضلها لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من
الإيمان » .
([418]) صحيح البخاري ، كتاب التفسير القرآن حديث
(4487) ، قال r
: « يدعى نوح يوم القيامة ، فيقول : لبيك
وسعديك يا رب ، فيقول : هل بلغت ؟ فيقول نعم ، فيقال لأمته : هل بلغكم ؟ قالوا :
ما أتانا من نذير ، فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته ، فتشهدون أنه قد بلغ
: ] ويكون الرسول عليكم شهيدا [ . فذلك قوله جل ذكره : ] وكذلك جعلناكم أمة وسطا ... [ والوسط العدل » .
([456])
وحكي أيضاَ - عن أبي سعيد الخدري، وجابر،
- رضي الله عنهما- أنّ المتعة جائزة، وبه قال عطاء وطاوس، وابن جريج. وعن أحمد
رواية تقول بكراهته. وقال زفر من الحنفية: يصح ويلغي الشرط.
واستدل
من قال بجوازها: بقول عمر - رضي الله عنه - متعتان على عهد رسول الله r أنا أنهى عنهما متعة النكاح، ومتعة الحجّ» وأجيب عن هذا : بأن عمر
قصد الإخبار على أنّها حرام؛ لأنه ما كان له أن ينهى عن شيء أباحه النبي r . وأيضاً قاسوه على الإجارة. انظر: المغني 10/47 - 48.
([465])
أي أصدقائكم وأصحابكم لا بأس بأن تأكلوا طعامهم من غير إذن منهم، أو ما ملكتم
مفاتحه: وهم الخدم، والمسنأمنين على الأطعمة لا مانع من أن يأكل منها من غير إذن
مالكها طالما كان يأكل بالمعروف.
([477])
جزء من خطبة النبي r
في حجة الوداع أصله في صحيح البخاري كتاب الحج باب الخطبة أيام منى برقم
1739-1742.
([490]) أخرجه الإمام أحمد . وأخرجه مسلم أيضا بنحوه في
صحيحه ، كتاب التوبة ، باب في سعة رحمة الله تعالى رقم الحديث 19 ، 20-(2753) عن
سلمان الفارسي .
وقد
رواه البخاري ومسلم أيضا عن أبي هريرة ، بلفظ : « إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة
واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون ، وبها يتزاحمون ، وبها
تعطف الوحش على ولدها ، وأخَّر الله تعسا وتسعين رحمة ، يرحم بها عباده يوم
القيامة » صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب الرجاء مع الخوف رقم (6469) ، ومسلم
في صحيحه ، كتاب التوبة ، باب في سعة رحمة الله تعالى رقم الحديث 20-(2752).
([495]) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب بدء الخلق ، باب
(1) رقم الحديث (3194) ، ومسلم في صحيحه ، كتاب التوبة ، باب في سعة رحمة الله رقم
الحديث 14-(2715) .
([506])
انظر هذا النهي من حديث ابن عمر في: صحيح
البخاريّ في كتاب الجهاد والسّير، باب قتل النّساء في الحرب رقم (3015) ، وفي صحيح
مسلم في كتاب الجهاد والسّير، باب تحريم قتل النّساء والصّبيان رقم (1744) .
([507])
أخرجه مسلم من حديث بريدة في كتاب الجهاد
والسّير، باب جواز الإغارة على الكفّار الذين بلغتهم دعوة الإسلام برقم (1730)
(3/1357).
([511]) أخرجه أحمد من
حديث ابن عبّاس في المسند (1/257). قال عنه أحمد شاكر: (إسناده صحيح). انظر:
المسند بتحقيقه رقم (2329) (4/95)، ونحوه عند التّرمذيّ في كتاب البرّ والصّلة،
باب ما جاء في رحمة الصّبيان برقم (1921) (4/284).
([512]) أخرجها أبو
داود من حديث أبي السرح في كتاب الأدب، باب في الرّحمة برقم (4943) (4/286). ونحوها
عند التّرمذيّ في المرجع السّابق من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه رقم (1920)
(4/284).
([513]) أخرجهما مسلم من حديث عائشة في كتاب
الفضائل، باب رحمته r الصّبيان والعيال برقم (2317) (4/1808).
([514]) أخرجه مسلم من حديث أبي
هريرة في الكتاب والباب السّابقين برقم (2318) (4/1808-1809)، وأخرج البخاريّ من
حديث جرير في كتاب الأدب، باب رحمة النّاس بالبهائم برقم (6013) (7/102).
([515])
متّفق عليه من حديث أبي ذرّ، أخرجه البخاريّ في
كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهليّة برقم
(30) (1/16)، ومسلم في كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك ممّا يأكل وإلباسه ممّا
يلبس… برقم
(1661) (3/1283) واللّفظ له.
([518])
أخرجه أصحاب السّنن وأحمد من حديث أنس بن مالك:
أبو داود في كتاب الصّوم، باب اختيار الفطر برقم (2408) (2/317)، والتّرمذيّ في كتاب
الصّوم، باب ما جاء في الرّخصة في الإفطار للحبلى والمرضع برقم (715) (3/94)،
وقال: (حديث أنس بن مالك الكعبيّ حسن). والنّسائيّ في كتاب الصّيام، باب ذكر
اختلاف معاوية بن سلام وعليّ بن المبارك في هذا الحديث برقم (2279) (4/493)،
واللّفظ لهما (التّرمذيّ والنّسائيّ)، وابن ماجه في كتاب الصّيام، باب ما جاء
للإفطار للحامل والمرضع برقم (1667) (2/310)، وأحمد في المسند (5/29).
سكت عنه ابن حجر بعد ذكره تحسين التّرمذيّ في التلخيص
الحبير رقم (912) (2/802-803)، وحسّنه الألبانيّ في صحيح سنن النّسائيّ، وصحّح بعض
الرّوايات. انظر: الأرقام (2144-2152) (2/484-486).
([523])
انظر
تفصيل ذلك في الموافقات للشّاطبيّ (1/254)؛ مقاصد الشّريعة الإسلاميّة لابن عاشور
(ص197-198)؛ مقصد الشّريعة الإسلاميّة لليوبي (ص400ومابعدها).
([524])
انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/324).
عند قوله تعالى: ( وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) (البقرة: من الآية286).
([526])
أخرجه
البخاريّ في كتاب التّفسير، باب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) برقم
(4498) (5/183)، وفي كتاب الدّيات، باب من قتل له قتيل فهو بخير النّظرين برقم
(6881) (8/357-358). وانظر قول القرطبيّ في الآية في الجامع لأحكام القرآن
(2/259).
([528])
أخرجه الشّيخان من حديث أنس، وذلك حين رأى
فتياناً نصبوا دجاجة يرمونها. البخاريّ في كتاب الذّبائح والصّيد والتّسمية على
الصّيد، باب ما يكره من المثلة والمصبورة والمجثّمة برقم (5513) (6/581)، ومسلم في
كتاب الصّيد والذّبائح، باب النّهي عن صبر البهائم برقم (1956) (3/1549).
([529])
أخرجه مسلم من حديث شدّاد بن أوس في كتاب الصّيد
والذّبائح، باب الأمر بإحسان الذّبح وتحديد الشّفرة برقم (1955) (3/1548).
([531])
أخرجه الشّيخان من حديث النّعمان بن بشير،
البخاريّ في كتاب الأدب، باب رحمة النّاس بالبهائم برقم (6011) واللّفظ له، ومسلم
بلفظ (مثل المؤمنين) في كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم
وتعاضدهم برقم (2586) (4/1999-2000).
([532])
متّفق عليه من حديث أسامة بن زيد، أخرجه
البخاريّ في كتاب الجنائز، باب قول النّبيّ r يعذّب الميّت ببكاء بعض أهله عليه، إذا كان النّوح من سنّته برقم
(1284)، ومسلم في كتاب الجنائز، باب البكاء على الميّت برقم (923) (2/635-636).
([533])
أخرجه أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو في
كتاب الأدب، باب في الرّحمة برقم (4941) (4/285) واللّفظ له، والتّرمذيّ في كتاب
البرّ والصّلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين برقم (1924) (4/285) بلفظ: (ارحموا من
في الأرض) وقال: (هذا حديث حسن صحيح).
([534])
أخرجه الشّيخان من حديث جرير بن عبد الله،
البخاريّ في كتاب التّوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى ] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ [ برقم (7376) (8/520)، ومسلم في كتاب الفضائل، باب رحمته r بالصّبيان والعيال… برقم (2319) (4/1809) واللّفظ له.
([535])
أخرجه البخاريّ في الأدب المفرد من حديث أبي
هريرة، وحسّنه الألبانيّ في صحيح الأدب المفرد، باب ارحم من في الأرض برقم
(288/374) (ص149)، وأحمد في المسند (2/442)، وحسّنه محقّقوه برقم
(8001) (13/378)، وأبو داود في كتاب الأدب، باب في الرّحمة برقم (4942) (4/286)،
والتّرمذيّ في كتاب البرّ والصّلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين برقم (1923)
(4/285) وقال: (هذا حديث حسن).
([548]) قيل: هم عليّ
بن أبي طالب، وعثمان بن مظعون، وعبد الله بن عمرو بن العاص. انظر: فتح الباري
(10/131).
([549])
متّفق عليه: أخرجه البخاريّ في كتاب النّكاح،
باب التّرغيب في النّكاح برقم (5063) (6/437)، ومسلم في كتاب النّكاح، باب استحباب
النّكاح لمن تاقت نفسه إليه، ووجد مؤنة برقم (1401)
(2/1020).
([551])
أخرجه الشّيخان: البخاريّ في كتاب الصّوم، باب
حقّ الجسم في الصّوم برقم (1975) (2/609)، واللّفظ له، ومسلم في كتاب الصّيام، باب
النّهي عن صوم الدّهر لمن تضرّر به، أو فوّت به حقّاً برقم
(1159) (2/812-818).
([594])
انظر: صحيح البخاريّ من حديث عائشة في كتاب
النّكاح، باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرّتها رقم (5212)، وصحيح مسلم في كتاب
الرّضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرّتها رقم (1463).
([595])
أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة بألفاظ
مختلفة: أبو داود في كتاب النّكاح، باب في القسم بين النّساء برقم (2133) واللّفظ
له، والتّرمذيّ في كتاب النّكاح، باب ما جاء في القسمة بين الضرائر برقم (1141) ،
والنّسائيّ في كتاب عشرة النّساء، باب ميل الرّجل إلى بعض نسائه دون بعض برقم
(3952) ، وابن ماجه في كتاب النّكاح، باب القسمة بين النّساء برقم (1969) ، ورواه
الحاكم في كتاب النّكاح من المستدرك برقم (2818) ، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط
الشّيخين ولم يخرجاه)، ووافقه الذّهبيّ.
([596])
أخرجه البخاريّ في كتاب الهبة وفضلها والتحريض
عليها، باب الهبة للولد، برقم (2586) (3/186)، ومسلم في كتاب الهبات، باب كراهة
تفضيل بعض الأولاد في الهبة برقم (1623) (3/1242).
([597]) أخرجاه:
البخاريّ في باب الإشهاد في الهبة من الكتاب السّابق برقم (2587) (3/187)، ومسلم
في الكتاب والباب والرّقم السّابق،
(3/1242-1243).
([606])
أخرجه
التّرمذيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ في كتاب الأحكام، باب ما جاء في الإمام العدل
برقم
(1329) (3/617)، وقال: (حديث أبي سعيد حديث حسن غريب، لا نعرفه إلى من هذا الوجه).
([608])
أخرجه
أصحاب السنن من حديث أبي بريدة: أبو داود في كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ
برقم (3573) ، واللّفظ له ، والتّرمذيّ في كتاب الأحكام، باب ما جاء عن رسول الله r في القاضي برقم (1322) ، والنّسائيّ في السنن الكبرى في كتاب
القضاء، باب ذكر ما أعدّ الله تعالى للحاكم الجاهل برقم (5922) ، وابن ماجه في
كتاب الأحكام، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحقّ برقم (2315). وأخرجه الحاكم في
المستدرك برقم (7091) (4/188) وقال : " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه
"
([609])
إلاّ أنّ الحنفيّة جعلوها شرط كمال لا شرط صحّة.
انظر: كتاب شرح أدب القاضي (1/129)؛ بدائع الصنائع (7/3)؛ جامع الأمّهات (ص462)؛
حاشية الدّسوقيّ (4/129)؛ التّهذيب (8/167)؛ روضة الطّالبين (11/96)؛ الفروع
(6/374)؛ المبدع (10/19)؛ مجموع الفتاوى (28/259).
([615])
أخرجه الدّارقطنيّ في سننه من حديث أمّ سلمة برقم (4/131)،
والبيهقيّ في السنن الكبرى (10/135).
([616])
أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية، باب كيف
القضاء برقم (5382) (3/301)، والتّرمذيّ مختصراً في كتاب الأحكام، باب ما جاء في
الإمام العادل برقم (1331) ، وقال: (هذا حديث حسن)، والبيهقيّ في السنن الكبرى في
الكتاب السّابق باب ما يقول القاضي إذا جلس الخصمان بين يديه (10/137).
([617])
أخرجه الشّيخان من حديث عائشة، البخاريّ في
كتاب الحدود، باب كراهيّة الشّفاعة في الحدّ إذا رفع إلى السّلطان برقم (6788)
(8/329)، واللّفظ له، ومسلم في كتاب الحدود، باب قطع السّارق الشّريف وغيره،
والنّهي عن الشّفاعة في الحدود برقم (1688) (3/1315). بلفظ (إنّما أهلك الذين من
قبلكم).
([618])
أخرجه الشّيخان من حديث أبي بكرة، البخاريّ في
كتاب الأحكام، باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان ؟ برقم (7158) (8/449)،
واللّفظ له، ومسلم في كتاب الأقضية، باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان برقم (1717)
(3/1342)، بلفظ: (لا يحكم أحد).
0 Komentar